17 - 07 - 2024

محاضرات في إستراتيجية اللاعنف

محاضرات في إستراتيجية اللاعنف

( المحاضرة الأولي )

قبل أن يتم إغتيال القس الأمريكي الأسود دكتور مارتن لوثر كنج زعيم حركة " الحقوق المدنية " للأمريكيين ذوي الأصول الإفريقية، كان الرجل ينتقل إلي مرحلة جديدة من نضاله كي يبشر بحركة " العدالة الإقتصادية " ، ولذلك فقد نادي بثورة إقتصادية تتضمن حماية الخدمات والمكتسبات التي يحصل عليها فقراء أمريكا.

ولقد كان لوثر كنج أحد أبرز المنظرين للمقاومة السلمية واللاعنف، لذلك جاءت دعوته الأخيرة علي نمط كفاحه في الحقوق المدنية، حيث دعا كل فقراء أمريكا بغض النظر عن اللون أو الجنس إلي مسيرة هائلة إلي واشنطن، وقد تم إغتياله قبل أن تبدأ تلك المسيرة، إلا أنه تمت الإستجابة لدعوته وتجمع حوالي مائة ألف من الفقراء يهتفون بشعارت دكتور كنج في الإصلاح الإقتصادي، التي تصدرها نداؤه العاطفي المشحون: " لدي حلم " (I have a dream).

وفي الذكري الخمسين لهذه المسيرة التي انطلقت عام 1968 ، قررت بعض المنظمات الأمريكية إحياء هذه الحملة مرة أخري يتصدرها بعض رجال الدين مثل القس جيسي جاكسون (وقد كان واحداً من قيادات حركة 1968)، والقس ويليام باربر اللذين تم إلقاء القبض عليهما ..

تتبني حملة الناس الفقراء نظرية تري أن العنصرية والفقر والعسكرة ( Militarism ) هي عناصر متشابكة تؤدي كل واحدة منها إلي الأخري، وعندما سئل أحد قادة هذه الحركة لماذا اللجوء إلي المسيرات والمظاهرات بدلاً من العمل من خلال القنوات السياسية الشرعية، ومن خلال الدفع بمرشحين يعملون علي دعم أهداف هذه الحملة، قال انه كانت هناك في الإنتخابات الرئاسية الأخيرة في أمريكا 26 مناظرة سياسية ما بين كلا الحزبين الديمقراطي والجمهوري، لم يناقش فيها ولو مرة واحدة موضوع الفقر .. وأضاف أنه لا بد من التحذير من إحتمالات العنف الذي سوف يترتب علي الفقر، ولا بد من حماية ما يزيد علي 37 مليون شخص ليس لديهم تأمين صحي.

وهكذا نري أن استخدام تكتيكات المقاومة السلمية واللاعنف ضروري حتي في المجتمعات التي وصلت في التطبيق الديمقراطي إلي درجة عالية، والتي تملك مؤسسات وآليات للتفاوض الداخلي دون اللجوء بالضرورة لأي وسائل خارج هذه القنوات الشرعية.

فإذا كان ذلك كذلك، فأن الضرورة تفرض نفسها لإستخدام هذا الأسلوب في المجتمعات الأقل حظاً في النمو الديمقراطي، أو التي تعاني من سلطة إستبدادية لا تتيح حرية الرأي أو التعبير ولا تحترم الدستور والقانون، أو تلك التي ترزح تحت إحتلال أجنبي ولا تملك أدوات النضال المسلح، أو تكون تكلفته باهظة .

وإستراتيجية اللاعنف تعتمد بشكل أساسي علي فلسفة لإحداث التغيير الإجتماعي، وهي وإن كانت لا تستخدم القوة إلا أنها ليست فلسفة سلبية، لأنها تدعو إلي نوع من المقاومة السلمية.

وأدوات تطبيق هذه الإستراتيجية تتنوع وفقاً لطبيعة الصراع، إلا أنها تعتمد بشكل كبير علي رفع الوعي من خلال التعليم والعمل السياسي الإيجابي والدعاية والإعلام، وتمارس أساليب مختلفة للضغط أهمها الإمتناع عن التعاون مع السلطات أو المقاطعة التي تتطور إلي العصيان المدني.

ويدعي بعض الفقهاء اليهود أن أول من طبق أسلوب العصيان المدني كان أم سيدنا موسي عليه السلام وشقيقته اللذين لم ينفذا أمر الفرعون، واحتالا عليه تهرباً منه، وأن نساء اليهود في ذلك العصر مارسن أيضاً بتوسع هذا النوع من العصيان المدني.

ومن ناحية أخري فأن مصر مرة أخري تحتل مركزاً مميزاً في تطبيقات العصيان المدني في التاريخ الحديث، حيث تعد ثورة 1919 نموذجاً بارزاً في المقاومة السلمية والعصيان المدني التي قادها سعد زغلول، وكانت ملهمة للمهاتما غاندي في مسيرته الطويلة التي قام خلالها بتأصيل نظرية متكاملة للمقاومة السلمية واللاعنف.

والحقيقة أن الهندوسية والبوذية تحديداً لا تشجع علي إستخدام العنف أو سفك الدماء، ليس فقط من الإنسان تجاه أخيه الإنسان، وإنما تجاه الحيوان والنبات وربما ايضاً الحشرات في بعض القراءات، وهي تتضمن الـ ( أهيمسا ) التي تمثل أرفع الفضائل التي يمكن أن يتحلي بها إنسان، وتتضمن أن كل البشر لديهم جزء من روح الإله، لذلك فإن إيذاء أي إنسان تعني أن الإنسان يؤذي نفسه .

وكانت تلك الفلسفة الوادعة هي الأرضية التي سمحت بنجاح المهاتما غاندي في شن مقاومته السلمية ضد الإحتلال البريطاني، وهناك من يري أن الدكتور مارتن لوثر كنج قد أستلهم من إستراتيجية غاندي في الهند، ملامح إستراتيجيته في المقاومة السلمية وصولاً إلي تحقيق الحقوق المدنية للسود.

ولقد كانت الثورات الملونة في أوروبا الشرقية أمثلة أخري للمقاومة السلمية التي تنتهج أسلوب اللاعنف، لإنهاء أنظمة الحكم الشيوعية في تلك البلدان .

وهناك من ينقد أسلوب المقاومة السلمية، ويعتبره نوعاً من السلبية والتقاعس عن النضال بمعناه الحقيقي، والواقع أن الفارق بين المقاومة السلمية والسلبية جد واضح، ففيما تعني الأولي  الإعتراض دون التسبب في أي عنف، فإن الثانية تعني الجمود والقعود تماماً وعدم إحداث أي تغيير في الأوضاع السائدة.

وفي محاضرة ألقاها الدكتور مارتن لوثر في جامعة أوسلو يوم 11 ديسمبر 1964 تحت عنوان "البحث عن السلام والعدل" ، قال : "إن اللاعنف هو سلاح قوي وعادل، وهو سلاح فريد في التاريخ، لأنه يقطع دون أن يجرح، ويرفع حامله إلي مصاف النبلاء" ..

والحقيقة أنه إذا كان من المفترض أن سلطة الحكم تكتسب شرعيتها من الرضا العام للمحكومين، فأن حركة اللاعنف تسعي لسحب هذه الرضا أو جزء كبير منه، من خلال خلق ديناميات إجتماعية، أو حركة سياسية لزيادة أعداد المؤمنين بالتغيير في مواجهة أولئك الذين يدافعون عن الأوضاع القائمة.

وتشير بعض الدراسات إلي أن من مارسوا الثورات السلمية الناجحة، أضطروا في أحيان كثيرة للقبول ببعض التطبيقات العنيفة وخاصة في مجال الدفاع الشرعي عن النفس، فلم يعتبروا أن المتظاهر السلمي يفقد سلميته إذا قاوم بدنياً محاولة الإعتداء عليه بواسطة أفراد الأمن، علي أساس أن ذلك حق طبيعي أصلي لكل إنسان، كما لم يعترض البعض الآخر (مثل مانديلا) علي قيام بعض أعضاء المؤتمر الوطني بإشعال النيران في بعض الملكيات الحكومية التابعة لنظام الفصل العنصري (الأبارتايد) طالما يتم ذلك بعد أنتهاء الدوام الرسمي، وعدم وجود العاملين في تلك الملكيات، وقد قامت بعض العناصر الثائرة بما هو أكثر من ذلك، حيث قامت بتفجير محطات الوقود، والسكك الحديدية.. وقد شهدت ثورة 1919 تطبيقات مماثلة وصلت إلي حد عمليات الإغتيال السياسي، وكان أخطرها بالطبع إغتيال سردار الجيش المصري البريطاني لي ستاك، رغم إعتراض سعد زغلول وأغلب القيادات الوطنية علي هذه الأفعال.

( وللحديث بإذن الله بقية ) 

-----------

الكاتب مساعد وزير الخارجية الأسبق

مقالات اخرى للكاتب

علي هامش السد!