17 - 07 - 2024

دموع الجنرال ...

دموع الجنرال ...

لماذا يلوم الناس أهل التشريع لدينا علي صدور القانون الأخير الذي صدر لتحصين القيادات العسكرية ضمن إمتيازات أخري ، أن ذلك أمراً سبق وحق عليه وعلي من وضعوه القول ، ففي أزمنة جمهوريات الموز في أمريكا اللاتينية ، كان ذلك أمراً مقضياً ، حيث كان حكم الكولونيلات يشبه أجواء رواية جابرييل جارسيا ماركيز " مائة عام من العزلة " ..

" تحذير إلى كل طاغية وديكتاتور: لا تتركوا مقاعد الحكم أبداً... فليكن الإجراء الديموقراطي الوحيد الذي تقبلون به هو أن ينتقل الحكم منكم بشكل هادئ بواسطة التدخل الإلهي وحده. لا تسلموا الحكم إلا لعزرائيل. وقد أعذر من أنذر!" ..

ومثال المسكين أوجستو بينوشيه في تشيلي أوضح من أي مثال، فبعد انتهاء فترة الحكم الممتدة للجنرال العجوز ، توجه الي لندن لتلقي العلاج وهناك فوجئ بمعاملة تشبه معاملة المشبوهين المنبوذين إذ تصاعدت من كل جانب الدعوة لمحاكمته على ما اقترفت يداه.

لقد أنقذ الرجل بلاده من خطر الشيوعية، وزغردت عواصم الغرب، واحتفلت واشنطن أيما احتفال بهذا المخلِّص العظيم. ولكنه اصبح فجأة يواجه وحده نتائج شجاعته، وقد أدارت تلك العواصم ظهورها اليه، خصوصاً واشنطن. ومصيبته لا تقل عن مصيبة الشاه الإيراني، ونورييجا البنمي، وماركوس الفيليبيني. فالرجل مثلهم، كان رجل اميركا المخلص، الليبيرالي الحر الذي رفس الشيوعية بلا رجعة في بلاده، في تعاون مقدس مع رسل الخلاص ماركة CIA. لقد أدى وظيفته، وشأنه شأن المتقاعدين الذين لا تهتم بهم مؤسساتهم، أصبح بلا فائدة، ولا مانع من أن يقبض عليه، أو أن يطارد كالفأر المذعور في أركان الكرة الأرضية حتى وهو في سن الخامسة والثمانين.

كانت تشيلي، كما يقال، جنة الديموقراطية في اميركا اللاتينية، ففي تلك القارة التي اشتهرت بانقلابات الجنرالات، استقر النظام الديموقراطي لمدة تتجاوز أربعين عاماً حتى انقلاب الجنرال بينوشيه.

ففي الرابع من سبتمبر 1970 نجح الاشتراكي سلفادور الليندي في الوصول الى رئاسة تشيلي عن طريق صناديق الاقتراع حيث  حصل على حوالي ٣٦ في المئة من الأصوات، وفي تلك الأثناء أرسل السفير الاميركي في سانتياغو أدوارد كوري تقريراً تضمن أن تشيلي صوّتت بهدوء لتحصل على دولة ماركسية / لينينية، وأنها بذلك تكون أول دولة في العالم تنفذ هذا الاختيار بشكل حر. ولم يرَ هذا السفير آنذاك أن القوات المسلحة التي اغتالت الديموقراطية في تشيلي فيما بعد ستتدخل بما يهدد بحرب أهلية أو أن هناك معجزة ستقاوم هذا الانتصار. كتب ذلك السفير: "إنه من المحزن أن تشيلي أخذت طريق الشيوعية ولكن هذه هي الحقيقة الثابتة، وأن ذلك سيترك تأثيراً عميقاً في اميركا اللاتينية وما وراءها، لقد تلقينا هزيمة ساحقة ستترتب عليها نتائج محلية ودولية"... كانت مناحة اميركية طويلة في شكل تقرير ديبلوماسي.

وفي كتابه "سنوات البيت الأبيض" علّق كيسنجر على ذلك بأن ما حدث في تشيلي كان مواكباً لرفض القاهرة وموسكو للاحتجاج الاميركي في شأن انتهاكات وقف إطلاق النار ،  يعني بذلك استمرار مصر في بناء قواعد صواريخ سام المضادة للطائرات، وتخوف الأردن من تحرك محتمل للقوات العراقية ضد الملك حسين في ظل أزمته مع المقاومة الفلسطينية، وتحرك الأسطول السوفياتي تجاه كوبا ، وفي التوقيت نفسه كان رجال المقاومة الفلسطينية يمرون في الأردن بما أطلق عليه "أيلول الأسود". يقول كيسنجر باختصار: "إن انتخاب الليندي كان تحدياً لمصالحنا القومية، وكان صعباً علينا أن نقبل بوجود الدولة الشيوعية الثانية في منطقتنا بعد ان كانت الأولى هي كوبا".

بحثت لجنة "تشرش" في عام 1975 عن دور الاستخبارات المركزية الاميركية في تشيلي، ويقول كيسنجر: إن اميركا كانت تدفع الملايين لخصوم الليندي في الانتخابات، إذ دفعت حوالي 3 ملايين دولار لخصومه في انتخابات 1964 التي خسرها، وآلاف غيرها في انتخابات البرلمان التشيلي للغرض نفسه، وبلغت المساعدات الرسمية التي قدمتها اميركا لهذا البلد ما يزيد على بليون دولار لدعم القوى المضادة لسلفادور الليندي.

سقط سلفادور في 11 أيلول سبتمبر 1973، بعد تولي منصبه بثلاثة أعوام. في صباح ذلك اليوم قامت القوات الجوية التشيلية بقصف قصر الرئاسة، واقتحمت قوات الجيش بقيادة الجنرال أوجستو بينوشيه القصر نفسه عند الظهيرة، حيث تم اغتيال الرئيس المنتخب  ، ويقول كيسنجر إن الليندي انتحر برشاش كان كاسترو أهداه اياه! ولكنه ليس متأكداً من ذلك.

وحكم بينوشيه بعنف تمثّل في قتل جماعي واختطاف وتعذيب عانى منه ايضاً  بعض الاميركيين. وأمام اللجنة التي شكّلها الكونغرس برئاسة السيناتور إدوارد كيندي تقدم صحافيان أميركيان بشهادة عما حدث في فواجع الإستاد الرياضي في سانتياجو مما جعل السيناتور كيندي يأسف لسياسة الصمت التي اتبعتها إدارة نيكسون حيال تلك الانتهاكات البشعة لحقوق الإنسان في تشيلي.

حكم الجنرال بينوشيه تشيلي بالحديد والنار لمدة 17 عاماً، الى ان سلم الحكم طوعاً عام 1990 الى حكومة مدنية ، دون ان ينسي ان يحصن نفسه كنائب في البرلمان التشيلي مدى الحياة كي يتمتع بالحصانة التي تحميه من أي مطالبة قانونية يتقدم بها أسر ضحاياه.

ولمدة ثمانية أعوام بعد تخليه عن السلطة عاش الرجل في أمان وسلام. بل كان يتردد على لندن للعلاج بشكل منتظم، حتى فوجئ بصدور أمر بالقبض عليه عندما كان يتلقى علاجه في إحدى مستشفيات لندن، وذلك بناء على طلب السلطات الاسبانية لتسليمه لمحاكمته على جرائمه التي ارتكبها أثناء فترة حكمه ضد مواطنين اسبانيين.

في البداية أصدرت المحكمة الإنكليزية حكمها بأن الجنرال العجوز يتمتع بالحصانة القضائية لكونه رئيس جمهورية سابق، إلا أن اللجنة القضائية لمجلس اللوردات نقضت هذا الحكم وقررت أنه يمكن تسليمه إلى اسبانيا. وبدأت دول أخرى تعد طلبات لتسليمه، مثل فرنسا وبلجيكا وألمانيا والسويد وايطاليا ولوكسمبورج .. انقلبت كل الدنيا عليه فجأة.

إن المرء ليرثي لحال هؤلاء السياسيين، ويأمل أن يراعي المجتمع الغربي المتحضر قاعدة "ارحموا عزيز قوم ذل". فلقد كان على أي حال رئيساً للجمهورية، له الصولة والجولة والمهابة والاحترام، بل إنه  كان رجلكم الخاص.. ثم لماذا هو بالذات؟ فلقد سبق ان ادين ارييل شارون ألف مرة في موضوع شهداء صابرا وشاتيلا وغيرهم، كما أن جونسون، اصدر عشرات الأوامر لقتل وتدمير أهل فيتنام!!. وغيرهم كثيرون..

لذلك يبدو  أنه يجب ان  يتكاتف الطغاة، و أن يرتفع نداء "يا طغاة العالم اتحدوا"، وأن يشكلوا نقابة أو رابطة تحمي مصالحهم حتى لا تتكرر هذه المهازل، لقد انكسرت قلوب الاتقياء وهم يشاهدون شاه إيران وهو في مرضه الأخير يتسول عاصمة كي تقبله لاجئاً. لقد انتقد كيسنجر الحكيم موقف حكومته في تخليها عن رجلها الأمين الذي انتهى إلى هذا الوضع المذل المهين، كذلك شاهد العالم ديكتاتور بنما السابق وضباط مكافحة المخدرات الاميركيين يسحبونه وهو في قيده الحديد، إلى السجن، ذلك الرجل الجبار الذي كان يهز الدنيا بخطاباته وهو يدق بقضبته ويصرخ بأعلى صوت، هل ينتهي به الأمر إلى أن يسجن في سجون البلد التي رعته وروته ونفخت فيه من أموالها السرية حتى أصبح ما كان. ثم ما هذا الذي حدث للزعيم ماركوس وزوجته البديعة التي جمعت أحذية تكفي لكل حفاة العالم؟! .

لهفي عليك يا بينوشيه مما عانيته من برودة لندن، وبرودة القلوب القاسية، حسبك أنك خدمت بإخلاص وإمانة، إلا أن أسيادك لم يكونوا على المستوى نفسه من الوفاء والإخلاص. كم خشيت عليك  وقتها من تلك الكوابيس التي لا بد أنها حاصرتك ، فمن المؤكد أن شبح سلفادور الليندي كان يظهر لك مسربلاً في دمائه، وهو يقود آلاف الاشباح والعفاريت من اليساريين وأصحاب الرأي والفكر الذين قتلتهم وشردت أسرهم، ولا بد أن الملاعين  كانوا يضحكون عليك ساخرين.

التاريخ يعيد كتابة نفسه مرات ومرات .. ولكن الطغاة لا يتعلمون !!

-----------

بقلم السفير / معصوم مرزوق

مساعد وزير الخارجية الأسبق

 

مقالات اخرى للكاتب

علي هامش السد!