17 - 07 - 2024

مطالب شعب

مطالب شعب

لا يمكن لأي مكابر إنكار أن التشخيص الحقيقي للأوضاع في مصر حالياً يشبه حالة "موت سريري"، سياسياً وإقتصادياً وثقافياً وإعلامياً، فهناك تعقيم واضح للحياة السياسية من خلال سياسات تعمد إلي إخصاء شامل للعقل والوجدان المصري باستخدام كل وسائل القمع والترهيب التي تملكها السلطة، وصلت إلي حد إقصاء كامل ليس فقط لمن يعترض علي سياسات الحكم، وإنما لمن يجرؤ علي مجرد الإختلاف. 

ومن جانب آخر يواصل الإقتصاد إنزلاقه المتسارع إلي هاوية سحيقة علي جانبيها يصرخ الناس من تدهور الخدمات في المرافق العامة والإرتفاع المتوالي في الأسعار يتجاوز أربعة أو خمسة أضعاف في زمن قصير، دون أي زيادة حقيقية في دخول المواطنين التي انخفضت إلي ثلث قيمتها بعد تعويم الجنيه المصري .. بل أن رئيس الجمهورية نفسه لم يجد غضاضة في أن يقر بتأكيد علي أن مصر ليس فيها صحة ولا تعليم ولا ... وذلك في مؤتمر صحفي في باريس مع الرئيس الفرنسي.

إعلام تم تعقيمه تدريجياً، أو فلنقل إستئناسه من خلال قوانين وإجراءات قمعية عديدة منها إعتقال الصحفيين وترويع أي إعلامي يحاول أن يكون له صوت مختلف، فالجميع يجب أن ينشدوا من نفس النوتة الموزعة عليهم، ولقد سبق لنفس الرئيس أن تمني أن يكون لديه إعلام يشبه إعلام عبد الناصر، أي إعلام طيع لا يحيد عن الخط المرسوم، فإذا به يتجاوز ذلك بشكل غير مسبوق منذ أن تم إكتشاف الإعلام في مصر، ففي زمن عبد الناصر كتب توفيق الحكيم ونجيب محفوظ بل وثروت أباظة أعمالاً تضمنت إنتقادات حادة للنظام وللزعيم .. أما الآن فالمطلوب لم يعد إعلاماً طيعاً، وإنما إعلاماً ساجداً حامداً شاكراً مهللاً، يبدأ وينتهي بـ " تحيا مصر " أو بعزف السلام الوطني ولو بين مرضي عاجزين عن الحصول علي العلاج في المستشفيات، مثلما طالبت وزيرة الصحة الجديدة .. 

لقد كتبت قبل ذلك أطلب من السادة القراء شراء رواية جورج أرويل (1984) أو روايته (مزرعة الحيوانات)، كي يتعرفوا علي أحوالهم الحاضرة، إلا أنني الآن أشك كثيراً في أن ما يحدث في حاضر مصر يتجاوز أضعافا ًمضاعفة ذلك الخيال الجامح لكاتب أراد أن يضع صورة شبه مستحيلة (في وقته) لزمن يسيطر فيه الإستبداد المطلق.. ربما يتيح لي وقتي أن أكتب رواية واقعية أثبت فيها أن ما كتبه جورج أورويل كان مجرد إستبداد مخفف أو "دايت" ، وأنه لو عاش معنا لمزق روايته باعتبارها خيالا "عبيطا"!.

ومن العبث محاولة حصر كل مظاهر التدهور في الأحوال المصرية، ولكن من المؤكد لأي محلل محايد أن ذلك الوطن يتهدده حالياً خطر وجودي حقيقي لا يتمثل فقط في إستفحال الإرهاب، بل أن الإرهاب هو نتيجة طبيعية لذلك، الخطر الوجودي يتمثل أساساً في إحتمال مرعب بإفلاس مصر، وإحتمال أكثر رعباً يتمثل في إنفجار إحتراب أهلي يترتب علي كل ما سبق.

أن ما نعيشه الآن هو حرب أهلية صامتة، تتمثل في غضب مكبوت وبخار محبوس وعنف من السلطة يواكبه عنف متزايد سواء من بلطجية توظفهم السلطة (مثل أولئك الذين اعتدوا علي إفطار رمضاني لنخبة مصرية قبل أسابيع في النادي السويسري) أو من بلطجية يعملون لحسابهم، أو في عمليات سرقه أو سطو أو غير ذلك من الجرائم الكبري التي يرتفع مؤشرها بشكل متصاعد. 

واقع الأمر أن الحقوق التي كفلها الدستور تحتاج إلي قوة تحميها بعد أن عجز القانون عن توفير هذه الحماية، ولا يبقي سوي أن ينهض الشعب نفسه لتوفير هذه الحماية، إذ لا بد من فض الإشتباك ما بين مفهوم أمن الوطن وفقاً لأدبيات السلطة، ومفهوم حقوق المواطن وفقاً للدستور والقانون، أي إيضاح الفارق ما بين قوة القانون بإعتباره الحاسم لأي نزاع، وقانون القوة بإعتباره أساس كل شقاق وظلم، ولا بد أيضاً أن تفهم السلطة أن ما تتصوره من مساحات صبر المواطنين وإحتمالهم، يخفي عنها حقيقة إنسحاب الرضا العام عن هذه السلطة بشكل متسارع ..

لكل ذلك، ومن أجل نزع فتيل الإحتراب الأهلي الوشيك، فأنه من الضروري التوصل إلي صيغة تفك شفرة الأوضاع الحالية، بحيث تتضمن مجموعة من المعادلات التي لا تتجاوز المحددات الدستورية والقانونية.

أن هذه الصيغة المنشودة تتضمن أبرز مطالب الناس وفقاً لما أعلنه حزب الناس الديمقراطي تحت التأسيس، وأبرزها مطلب "الحرية".. حرية المعتقلين، حرية التعبير، حرية الرأي، حرية التجمع السلمي، حرية التراب الوطني .. أو باختصار فتح مساحة واسعة للتنفس. 

من المهم أيضاً تحقيق مطلب "العدل"، من خلال عدالة توزيع الأعباء، عدالة إجتماعية، عدالة يضمنها مرفق عدل متزن الميزان، عدالة إنتقالية تعيد السلام الإجتماعي، ضريبة تصاعدية تعوض الفارق لعودة ضرورية لدعم الفقراء، القضاء المبرم علي الفساد ووقف سياسة الإقتراض وحماية أصول الدولة ووقف أي تصرف فيها وإلغاء القوانين التي تناقض ذلك المطلب، ويدخل في ذلك أيضاً ترشيد الإنفاق الحكومي وخفض الإنفاق العام علي المشروعات العقارية بنسبة لا تقل عن 25%. 

العدل أساس الحكم، فإذا لم يتوفر فلا شرعية للحكام.

ومن ناحية ثالثة لابد من توافر مطلب "الكفاءة"، كفاءة إدارة الخدمات وكفالة توفيرها للمواطنين بأسعار إجتماعية، وذلك يتطلب أيضاً القضاء علي المحسوبية والواسطة مع تحقيق المساواة في الفرص أمام كل المواطنين بلا تمييز.. ويدخل في مطلب "الكفاءة" أهمية إصدار قانون جيد للمحليات يتضمن أن تكون كل مراكز القيادة في المحافظات بالإنتخاب الحر المباشر، مع نبذ الإجراءات الإحتكارية وسيطرة الجيش علي مقدرات الإقتصاد.

الكفاءة هي أساس كل تقدم، وبدونها تتخلف المجتمعات.

وليكن واضحاً أنه إما تحقيق الحرية والعدل وكفاءة السلطة، وإما القبول بالدعوة للإنتخابات المبكرة، لأن السلطة إذا عجزت عن الإستجابة لمطالب الناس، فعليها ترك مقاعدها لمن يعرف كيف يحقق هذه المطالب.

والله من وراء القصد.

-----------

بقلم: السفير/ معصوم مررزوق*

*مساعد وزير الخارجية الأسبق



مقالات اخرى للكاتب

علي هامش السد!