17 - 07 - 2024

مخاض ميلاد متعسر!

مخاض ميلاد متعسر!

لقد اعتمدت علي الله أن أتقدم إلي الأمة المصرية قريباً بنداء علي أمل أن يجد فيه أهلي بعض مفاتيح تساعد في فتح الأبواب المغلقة، وهو ما أعددته بعد يحث وتحري وإجتهاد وضعت فيه كل خبراتي العسكرية والسياسية والإقتصادية علي مدي يناهز أربعين عاماً من حياتي، دون مطمع في مغنم سوي إبتغاء وجه الله وصالح شعب مصر الطيب ..

وربما يكون الجديد في النداء المزمع صدوره قريباً هو أنه يحاول أن يقدم صيغة تفك شفرة الأوضاع الحالية في مصر، تلك الأوضاع التي وصلت إلي منطقة مليئة بالألغام، سواء في إطارها السياسي أو الإقتصادي أو الإجتماعي أو الثقافي، وكذلك في محيطها الإقليمي والدولي.. فلا يمكن إلا لجاحد أو جاهل أن ينكر أن مصر تبدو حالياً وكأنها في حالة موت سريري، ولذلك فأن الصيغة التي أجتهد في وضعها تطمح في أن تقدم معادلات علاجية ضرورية سواء للسلطة أو المجتمع.. ولا أستطيع الجزم بمدي قبول الرأي العام لهذا الجهد، ولكنني لا أستطيع البقاء صامتاً ساكناً بينما مصر تنزلق بسرعة إلي أوضاع تمثل تهديداً وجودياً خطيراً.

ليس هذا محل إستعراض المبادرات المتعددة التي طرحت في الأشهر السابقة، وزادت كثافتها مؤخراً، وكلها جهود شريفة مخلصة تسعي إلي إنقاذ الوطن، ولعل أهم أسباب إخفاق المبادرات السابقة تترواح ما بين الشعور الجمعي العام بالإرهاق وهو ما يمكن أن نطلق عليه مصطلح Revolutionary Fatigue، واتخاذ السلطة لإجراءات قمعية إستبدادية متنوعة لتخويف الناس، وعدم توافق الجماعة الوطنية نتيجة لأسباب عديدة ليس هنا مجالها، كما لا يمكن إغفال دور الدعم الإقليمي والدولي لنظام الحكم لأسباب تتعلق بمصالح تلك الأطراف الإقليمية والدولية، وهذا موضوع يطول شرحه، وربما تناولته في مقال منفصل .

وإذا كان من الصحيح أن النظام السياسي لا يعتد أو يحترم المعارضة، بل وينقض عليها إعلامياً بالتشويه وإغتيال الشخصية، إلا أنه بذلك آ يرتكب نفس أخطاء مبارك الذي عاش في حالة إنكار جعلته يسخر من المعارضة قائلاً: "خليهم يتسلوا"، وبعدها بأيام كان مبارك يغادر سدة الحكم.. لذلك، فمن يدري؟، لعل بعض العفلاء في السلطة يجدون في ذلك النداء ما يمثل مخرجاً كريماً قبل فوات الآوان..

أما فيما يتعلق بالتيار الإسلامي وخاصة جماعة الأخوان المسلمين، فلا شك أن ممارسته للحكم لم تكن مشجعة لغالبية كبيرة من الشعب المصري، وكانت له أخطاء جسيمة آن أوان الإعتراف بها.. وأظن أن علي هذا التيار أن يتراجع بعض الخطوات للخلف في الوقت الحالي، وأن يقوم بعملية مراجعة واسعة تتضمن الإشتباك العقلاني مع القوي السياسية المختلفة في مصر، والحرص علي تقديم وجه سياسي جديد معتمداً علي قاعدته الشبابية.

لا أستبعد وجود بعض المفاوضات السرية من حين لآخر بين النظام السياسي الحالي وبعض ممثلي جماعة الأخوان المسلمين، والنظام نفسه يسرب من حين لآخر معلومات في هذا الشأن، وربما لن يدهشني أن يتم الإعلان قريباً عن صفقة من نوع ما.. أن تاريخ التواصل بين النظام السياسي المصري والجماعة طويل ومعقد، ولكنني أتصور أن مصلحة مصر لم تعد تحتمل هذا النوع من الصفقات الإنتهازية.

ورغم أنني كتبت وصرحت مئات المرات بإعتراضاتي المبدئية علي أسلوب محاكم التفتيش والمكارثية، إلا أنه يجب هنا أن أؤكد أيضاً بوضوح أنني لا أجد في الدعوات التي تنادي بشرعية مرسي أي واقعية سياسية أو فهم لطبيعة المتغيرات التي شهدها المجتمع المصري، وخاصة موقع وأثر الجماعة في الفكر والوجدان المصري.. لذلك اقترحت في أكثر من مناسبة بضرورة إجراء مراجعات تاريخية وموضوعية لإستخلاص النتائج العملية لمستقبل تيار الإسلام السياسي ليس فقط في مصر بل وفي العالم العربي والإسلامي بوجه عام .

ومن ناحية أخري، فأن ما يطلق عليه "التيار المدني" (وهو إصطلاح يمكن أن يشتمل علي كل الأحزاب السياسية والقوي المعارضة للأوضاع الحالية)، يجب ألا يتصور أحد أنه وحده يمثل مصر المستقبل، وإن كان آ في أوضاعه الحالية يمكن أن يلعب دوراً إنتقالياً هاماً، لأن متطلبات المرحلة القادمة تقتضي أن يكون لهذا التيار دور هام في الفترة القادمة، وأتصور أن لديه من الكوادر والكفاءات التي يمكنها أن تقدم لمصر القيادات الفعالة للعبور إلي مستقبل آمن.

ولا يمكن أن يكتمل الطرح السابق دون وضع بعض ملامح السياق الدولي والإقليمي الذي نتحرك فيه، فلا شك أن ما يتردد عن صفقة القرن لا يزال نوعاً من التنجيم وقراءة الكف، فمن الواضح أن هناك رائحة بيع في الجو، هناك مداولات معينة دارت وتدور في غرف مغلقة حول صفقات بهدف تسوية القضية الفلسطينية.. ولكن ما يبدو هو أن التوجه هو"تصفية القضية الفلسطينية"، لأن أوضاع المنطقة ، بل وأوضاع الفلسطينيين أنفسهم تغري بذلك.

إدارة ترامب هي إشد الإدارات صهيونية في التاريخ الأمريكي، ولكنها لا تختلف كثيراً عن كل الإدارات السابقة في دعمها المطلق للكيان الصهيوني.. وقدر الفلسطينيين أن يكونوا في المقدمة، وحتي إذا كانت الأوضاع العربية حالياً لا تقدم أي دعم للقضية الفلسطينية، فإن دوام الحال من المحال، ولدي يقين أن الضمير العربي والإسلامي لا يزال حياً، وأن قلب المقاومة لا يزال ينبض.

وبالرغم مما حدث من إنتهاك للدستور ولأحكام القضاء وللتاريخ ودماء الشهداء في قضية تيران وصنافير، فأنني أوكد بكل الحب والتقدير للأشقاء في السودان أن حلايب وشلاتين مصرية، وأثق من خلال خبرتي السابقة كمدير لإدارة السودان، ومدير لإدارة المعاهدات ثم مساعد لوزير الخارجية أن آ الأخوة في السودان يدركون يقيناً أن كل الأسانيد القانونية والتاريخية والفعلية في جانب مصر، كما أنني لا يمكن أن آ أتصور أن أي نظام مصري يستطيع التفريط في هذه الأرض، ولكنني أشجع علي طرح الأسانيد المصرية بشكل واسع علي الرأي العام المصري والسوداني.. حتي نتقادي ماحدث في قضية تيران وصنافير التي لا زلت أثق أنها مصرية، وستظل كذلك إلي أن يرث الله الأرض وما عليها.

ولا شك أن قضية حقوقنا التاريخية والقانونية في مياه النيل تحتل أهمية خاصة، وهناك أخطاء لامجال لمناقشتها هنا بشكل عام، سواء في شكل التحرك السياسي التفاوضي أو في مضمون هذا التحرك.. وهي قضية تستحق بالفعل إنتباها خاصا..

وإذا التفتنا إلي الأزمة الخليجية نجد أنها تبدو كمباراة يتنافس أطرافها آ في الأخطاء، وأتصور أنه كان ينبغي أن تتاح فرصة جيدة للمبادرة الكويتية، فقد كانت تمثل مخرجاً كريماً لكل الأطراف، ولكن من الواضح أن آ هناك أصابع دولية وإقليمية تحاول خلخلة الأوضاع في الخليج، ولا أستبعد دوراً جوهرياً للموساد الإسرائيلي الذي يحاول دفع المنطقة لصراع مذهبي وعرقي لا يبقي ولا يذر.. لقد كانت منظومة مجلس التعاون الخليجي إحدي المبادرات العربية القليلة الناجحة، ولذلك كان من المهم تحطيمها.. ومن نافلة القول أنني لا أجد أي مصلحة مصرية جيوإستراتيجية محققة من موقفها ضمن دول المقاطعة الرباعية، فهي للأسف أنضمت إلي فريق يرقص علي أنغام صهيونية، وكان يجدر بمصر، أياً ما كانت تحفظاتها أن تلعب دوراً جامعاً من خلال تبريد الأزمة مع قطر، والتحرك الإيجابي مع مبادرة أمير الكويت..

باختصار.. نحن في واقع مأزوم، داخلياً وإقليمياً ودولياً، ولا مفر من مواجهة هذه الحقيقة، فلن يجدي التمسك بحالة الإنكار أو الإصرار علي حمل تؤكد كل القياسات العلمية أنه حمل كاذب، كما لن يغير الأمر محاولات إخصاء الإرادة الشعبية من خلال إجراءات التخويف والقمع البوليسية، ولن تجدي محاولات كل طرف إقصاء الطرف الآخر.. فمصر في حاجة ماسة لنيلسون مانديلا أو لولا دي سيلفا بوجه مصري..

الموضوع أوسع من أن يحتويه مقال، وأرجو أن يكشف النداء الذي سوف أتقدم به قريباً بعض ملامح محفزات علمية ومعملية وقانونية تساعد في حسم المخاض الذي تضاعفت آلامه بشكل لم يعد يطاق، وقد تؤدي إلي ميلاد طال إنتظاره..

-------------
بقلم السفير / معصوم مرزوق

مساعد وزير الخارجية الأسبق.