20 - 04 - 2024

نهاية حكم الجنرالات!

نهاية حكم الجنرالات!

أتاحت لي ظروف عملي أن أتابع عن قرب تطورات التحول الديمقراطي في أمريكا اللاتينية، من خلال انسحاب حكم زمرة الجنرالات التي سادت وتسببت في اللقب الذي أطلق علي دولها "جمهوريات الموز"، ولقد قمت بإجراء دراسات مختلفة عن ذلك، ولكنني اليوم أريد أن أركز علي تجارب ثلاث لحكم الجنرالات في ثلاث دول هامة هي الأرجنتين وتشيلي والبرازيل .

بعد انتهاء حكم " الجونتا " العسكرية في الأرجنتين، حاول راؤول ألفونسين أول رئيس مدني أن يطبق " حكم النبي سليمان " حين قضي بين أمرأتين تنازعتا طفلا أمامه، فقد أمر بسيف كي يقسم الطفل بينهما، فوافقت امرأة بينما صرخت الأخري رافضة وهي تستعطفه أن يبقي علي حياة الطفل ويعطيه للمرأة الأخري، وهنا عرف سليمان من هي الأم الحقيقية.. ولكن راؤول لم يكن سليمان، ولم تكن الأرجنتين هي الطفل المتنازع عليه، ومع ذلك فقد كان عليه أن يختار..

المفروض أنه لم يكن لدي راؤول ألفونسين خيار، فقد كانت القضية واضحة تماماً، ولكنه مع ذلك وجد نفسه في مواجهة معضلة الحكم:"فإما أن يطبق العدل ويفرض بالفعل سيادة القانون، وإما أن يحمي نبات الديمقراطية الوليد".. لقد اتجه الرجل في البداية بقوة إلي التمسك بالخيار الأول، فهو يعيد الروح لآلاف الأمهات اللائي وقفن لسنوات في ميدان مايو أمام قصر الحكم، في ثلاجات الشتاء وأفران الصيف يهتفن بأسماء أبنائهن الذين أختطفهم النظام العسكري وألقي بهم في النهر أو دفنهم في الصحاري.. أن الخيار الأول بلا شك يؤكد بدء عهد جديد يسود فيه العدل ولا يفلت مجرم من العقاب.. 

وبالفعل تم إلقاء القبض علي قيادات المجلس العسكري الذي حكم الأرجنتين، وصدرت أحكاماً متعددة عليهم، إلا أن المدن الأرجنتينية عانت من إنفجارات متتالية لم يشك أحد في أن مصدرها هو من صغار الضباط في أجهزة الأمن والجيش الأرجنتيني، وكانت الرسالة واضحة:"لن تنعم الأرجنتين بالإستقرار إذا استمر ألفونسين في عملية العدالة الإنتقالية".. وكان علي ألفونسين أن يراجع نفسه، وكم كانت المراجعة مؤلمة علي رجل يؤمن بالحكم الدستوري ودولة القانون.. لكنه في النهاية أضطر للتراجع عن بعض مقتضيات العدالة الإجتماعية حفاظاً علي الدولة، وتأميناً للإجراءات الحثيثة التي كان قد بدأها لإعادة الحياة الديمقراطية وإنعاش الإقتصاد الأرجنتيني.. وربما طبق في هذه الحالة "حكمة سليمان" وإن لم يكن "حكمه"!..

وقد ظل الرئيس الأرجنتيني متردداً ما بين الأخذ بمقتضيات العدالة ومطاردة الجناة، وبين الحفاظ علي مكتسبات الحياة الديمقراطية التي يتمتع بها الأرجنتينيون بعد سنوات سوداء من الحكم الشمولي الإستبدادي للجونتا العسكرية، حتي سلم الرئاسة لخلفه كارلوس منعم عام 1989، وهو الرئيس الذي حسم الأمر بإصدار عفو شامل عن كل القيادات العسكرية سواء تلك التي صدرت ضدها أحكام أو تلك التي لا زالت في المحاكم.. أي أن "منعم" – ربما بجيناته الشرق أوسطية – اختار أن يسلم الطفل لمن يعرف الجميع أنها ليست الأم، وهو في هذه الحالة لم يطبق لا حكم ولا حكمة سليمان، وإنما حكمة البراجماتية السياسية الإنتهازية.. 

إلا أنه بإنتخاب الرئيس نستور كيشنر عام 2005، أصدرت المحكمة العليا قراراً بعدم دستورية العفو الذي تم لجرائم العسكريين في الحكم، وأعيدت محاكمات القيادات العسكرية مرة أخري، وكان أغلب من بقي علي قيد الحياة من تلك القيادات قد أشرف علي الثمانين، وهكذا صدر حكم علي قائد الإنقلاب العسكري خورخي فيديلا والذي حكم الأرجنتين حتي عام 1981، حيث صدر ضده حكم بالسجن لمدة 25 عاماً، رغم أن عمره وقت صدور الحكم كان 85 عاماً (مات في سجنه عام 2013) .. ولم يكن لدي قيادات وضباط الجيش أي اعتراض لأن زمناً طويلاً كان قد مضي، ولم يعد هناك من لا يزال يشعر بالولاء لهؤلاء القادة المجرمين الذين انتهكوا كل حقوق الشعب الأرجنتيني وساموه صنوف العذاب، مثل خطف المعارضين وإخفائهم وقتلهم، وتهديدهم بقتل أطفالهم الرضع، وإغتصاب نسائهم.. إلخ ..

وكان الدفاع الوحيد الذي تمسك به هؤلاء القتلة، هو أنهم أرادوا حماية شعب الأرجنتين من الشيوعية، بهدف تحقيق الإستقرار والتقدم.. والحقيقة التي كشف عنها تاريخ هؤلاء السفاحين هي أنهم فشلوا حتي في الوظيفة العسكرية التي تدربوا عليها، عندما قامت القوات البريطانية بإذلال قوات الجيش الأرجنتيني في جزر المالفيناز (الفوكلاند)، واجبروهم علي الانسحاب بملابسهم الداخلية!!..

أما الجنرال أوجستو بينوشيه في تشيلي، فقد ولد يوم آ 25 نوفمبر 1915، وعاش طويلاً حتي مات في يومآ  10 ديسمبر 2006 عن عمر يناهز 91 عاماً، وقد آ حكم تشيلي بعد إنقلاب عسكري منذ العام 1973 وحتي العام 1990، وكان قد تولي قيادة المجلس العسكري بعد قتل الرئيس سلفادور الليندي في مقر الرئاسة، وقد كانت فترة حكمه مثالاً للإرهاب والقمع السياسي، فقد تم قتل وتعذيب آلاف المعارضين، وكانت الممارسات تجاه المعتقلين غاية في الوحشية.

في عام 1980 تم إقرار دستور جديد لتشيلي بحيث يطبق نظام الاستفتاء علي مرشح واحد للرئاسة، إلا أن المعارضة السياسية للنظام كانت في تصاعد مستمر، مما أدي إلي أن البرلمان التشيلي رفض عام 1988 أن يمنح بينوشيه حق حكم البلاد مدي الحياة، ومع ذلك ظل الرجل القوي مسيطراً علي مقاليد السلطة والثروة من خلال طبقة من الإنتهازيين، فضلاً عن نفوذه الواسع بالطبع في المؤسسة العسكرية، إلا أن استمرار ضغوط المعارضة والإنتقادات الدولية أجبرته أن يسلم الحكم للرئيس المنتخب باتريسيو ايولين عام 1989، دون أن يتخلي عن منصبه كقائد للجيش التشيلي حتي عام 1990، وبعد ذلك أصبح نائباً في مجلس الشيوخ طبقاً للتعديلات الدستورية التي تمت عام 1980 كي يظل متمتعاً بحصانة تحول دون محاكمته علي جرائمه.

وهكذا كان القاضي الذي اختار "حكم سليمان" في تشيلي هو الشعب نفسه، رغم المظاهرات التي قام بها "يتامي بينوشيه" ودموعهم الهتون علي البطل القومي العظيم الذي أنقذ البلاد من الشيوعية، وحافظ علي الاستقرار وحقق "المعجزات" الإقتصادية!!..

وفي عام 2002 وأثناء رحلة علاج في بريطانيا، تم اعتقال بينوشيه الرهيب من خلال تفويض قضائي أصدره أحد القضاة الأسبان، وظل الرجل رهن الإقامة الجبرية في بريطانيا لمدة عام، وهو يشعر بالذهول من مشاعر مواطنيه الذين فرحوا لما ناله، ولا بد أن الجنرال غضب أشد الغضب علي إنعدام الوفاء لدي الشعب الذي عذبه وخوفه وقتل أبناءه لسنوات طوال. ولأن القضاء بشكل عام يتميز بالنزاهة والعدل، فقد تم إطلاق سراحة لأسباب طبية، ولا بد أنه اندهش مرة أخري من غباء القضاء الذي أطلق سراحه رغم جرائمه الثابتة.. لكنه عاد في النهاية إلى تشيلي، كي يتم خلعه أيضاً من مقعده البرلماني وبعد قرار من المحكمة العليا بأنه يعاني من الخرف والشيخوخة ولا يمكن بالتالي أن يُحاكم لأفعاله، وقد تأكد ذلك في مايو 2004 عندما حكمت المحكمة العُليا لا يتحمل المحاكمة نظراً لشيخوخته. 

لقد كان إنقلاب بينوشيه أول إنتهاك جسيم للحياة الديمقراطية التي كانت تشيلي تتباهي بها لمدة قرنين من الزمان، وبنهاية حكم المجلس العسكري، بدأت البلاد تتنفس الحرية مرة أخري.

وفي البرازيل نجح إنقلاب عسكري في أول إبريل 1964، واستمر في الحكم حتي 15 مارس 1985، وكان شعار المجلس العسكري البرازيلي أثناء فترة حكمه الطويلة هو "إما أن تحب البرازيل، أو تغادرها"، وإما أن تغادرها علي قيد الحياة، أو تغادر الحياة نفسها!

وتحت حكم "الجونتا" العسكرية، تدهور الإقتصاد البرازيلي بشكل خطير، وتمت مطاردة المعارضة السياسية بواسطة ما عرف وقتها بـ "فرق الموت" التي كانت تتولي إغتيال المعارضين، وكانت تلك الفرق تتشكل من كتائب من البلطجية تحت قيادة ضباط شرطة، وقد كشفت التحقيقات فيما بعد أن تلك الفرق كان يمولها رجال أعمال مرموقين، ورغم انتهاء الحكم العسكري لا يزال القضاء البرازيلي حتي الآن يتعقب أعضاء تلك الفرق الإجرامية، ويصدر أحكاماً مشددة بالسجن ضدهم. 

إلا أن كل هذا الرعب لم ينجح في القضاء علي جذوة المعارضة المشتعلة في البرازيل، بل دفعت المعارضين إلي العمل السري تحت الأرض، وأدي ذلك إلي إنتشار التفجيرات في أنحاء مختلفة من البرازيل، بل وحدث أنه تم إختطاف عدد من السفراء منهم سفير أمريكا في البرازيل مقابل الإفراج عن المعتقلين السياسيين.. وكانت الفتاة ديلما روسوف واحدة من الطلبة الذين شاركوا في العمل السري وتم إعتقالها وتعذيبها بشكل وحشي.. وقد أصبحت هذه الفتاة فيما بعد رئيسة للبرازيل بعد فترة رئاسة العظيم لولا دي سيلفا..

وقد هب الشعب البرازيلي في مواجهة حكم "الجونتا العسكرية" وعمت الإضرابات العمالية، واندفع البرازيليون إلي الشوارع عام 1979، وأستمر الزخم الثوري حتي عودة الديمقراطية للبلاد عام 1985، بعد أن ساءت الأحوال الإقتصادية بشكل غير مسبوق، وعجزت الحكومة عن سداد الديون التي استدانها المجلس العسكري دون تقدير للعواقب الإقتصادية، خاصة مع تطبيق سياسة أطلق عليها "أبيرتورا" (أي الإنفتاح!)، تبنت بغباء شديد تطبيقات مدرسة شيكاغو التي استفاد منها فقط حفنة من الرأسماليين والشركات متعددة الجنسية بحجة تشجيع الإستثمار.

إن سياسة الانفتاح التي بدأها الحكم العسكري في البرازيل قد أغرقت الإقتصاد البرازيلي لمدة تتجاوز ثلاثة عقود حيث ورط الإنقلاب العسكري البرازيل في ديون باهظة، وربما حقق نوعاً من الإستقرار من خلال قبضته الفولاذية ومطاردة المعارضة وإغتيال وسجن رموزها، كما ساعدته القروض الباهظة في الإنفاق علي بعض المجالات الخدمية التي أعطت صورة خادعة للإستقرار، وهو ما أدي إلي تدفق بعض الإستثمارات التي استغلت ذلك الإستقرار القصري المفروض كي تحقق أرباحاً طائلة، وإن كان كل ذلك علي حساب الشعب البرازيلي.

ومن المدهش أن "حكم سليمان" في الحالة البرازيلية طبقه المجلس العسكري نفسه علي نفسه، فعندما تمكن بالفعل من القضاء علي المعارضة المسلحة، التي كانت في الأساس رد فعل لقمع السلطة، أعلن بفخر أنه حقق الإستقرار، ولكن ذلك جعل الطبقة المتوسطة العريضة تري أنه طالما تحقق الإستقرار فما فائدة وجود الجيش في السلطة؟!!..

وكان لا بد أن يأتي ماسح للأحذية أسمه "لولا دي سيلفا" كي يعالج أمراض الإقتصاد البرازيلي.. ولكن تلك قصة أخري.
--------------------

بقلم السفير / معصوم مرزوق
مساعد وزير الخارجية الأسبق

مقالات اخرى للكاتب

علي هامش السد!





اعلان