16 - 08 - 2024

ناديت مكة

ناديت مكة

- مكة المكرمة..رمضان / ٢٠١٧:

وحدى فى تلك الحجرة الواسعة فى الفندق ، أتشاغل عن وجعى النفسى بوجعى الجسدى، ألم يجتاح كل مفاصل جسمى ولا يدع لى أية فرصة فى وقت ولو يسير للراحة .

يدخل زوجى، يلقى نظرة على الحقائب المتراصة على الأسرة : ها جهزتى كل حاجة؟ العربية على وصول .

رددت بصوت حاولت جاهدة أن يبدو طبيعيا: كله تمام ، إقفل انت بس الشنط، أنا مش عارفة.

كانت يداى ترتعشان بالفعل لحظتها، بل كل جسدى كان يرتجف .

إنطلقت بنا السيارة فى طريقها إلى المدينة المنورة، على إستحياء خطفت نظرة سريعة إلى الحرم الشريف كطفل محروم يتطلع إلى حاجة فوق قدرته، بينما أردد فى نفسى (إن الذى فرض عليك القران لرادك إلى معاد) كما علمنى أبى كى لا تكون تلك الرحلة هى آخر عهدى بهذا المكان الطاهر، حاولت التحايل على النوم ولكنه كان أكثر دهاء منى، راح يراوغنى حتى أرغمنى على إسترجاع شريط من الذكريات التى أرقت مجلسي.

إنه اليوم العاشر والأخير لنا فى مكة ومازالت الآلام تفترسنى بلا هوادة، كل يوم أمنى النفس أننى سأتحسن ولن أترك جوار الكعبة المشرفة دون جدوى، ويتمكن منى الألم ليبقينى أسيرة فى غرفة  الفندق، بالكاد أديت العمرة وكنت أذهب للصلاة مرة فى اليوم على الأكثر وأنا فى حال من الإعياء لا يعلم به الا الله، أثناء الطريق ألتمس الراحة فى أكثر من محل حتى أصل إلى ساحة الحرم الفسيح، كنت تماما كأم وضعت صغيرها قبل موعد المخاض، ووقفت تراقبه من وراء زجاج غرفة العناية، فلا هى لا زالت تترقب وصوله فتسرى عن نفسها وتهدأ، ولا هى قريبة منه فتحتضنه وتستكين.

- المدينة المنورة .. رمضان/ ٢٠١٧:

ها هى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم تلوح فى الأفق، هدوء غريب يعترينى كلما قدمت إليها، أشعر بألفة لا أشعرها فى مكان سواها، نظرت إلى السماء وأنا أردد "يارب" لم يعد المرض والسهاد طوال الوقت يسمحان لى بالقدرة على الدعاء .

أنا كائن مسالم، لا أحب الإحتكاك بأحد، أدع كل ماهو "جائز" أو "مستحب" مقابل ألا يكون هناك ثمة ضرر أو ضرار، لا أحب المزاحمة، ولا طاقة لدى على إحتمال تجاوزات البشر، أقف على أعتاب قبره الشريف وحدى بعيدا وألقى عليه السلام والتحية، أستشعر الهيبة فى حضرته وأتضرع إلى الله أن يجعله شفيعا لى ولأحبابى فى الجنة، ثم ألقى السلام دون أن تطاوعنى قدماى على الرحيل، لأكتشف بعد دقائق ليست بالقليلة أننى لا زلت مكانى ولا زال لسانى يلهج بالدعاء والسلام دون أن أتحرك ولو قيد أنملة .

فى ذلك العام لم أستطع أن أفعل حتى ذلك، ساءت حالتى الصحية والنفسية للغاية، ودعت المدينة وأنا ألقى بذور  أمل واهية فى صحارى إحباطاتى المتوالية ممنية نفسى أننى سأعود فى العام القادم.

- القاهرة .. ربيع ثانى/ ٢٠١٧:

رفضت دعوة كريمة من أخى لزيارته وأسرته فى دبى، كنت مشتاقة إليهم بالفعل، وبعد أن انتهيت من معظم التفاصيل المتعلقة بالسفر، إعتذرت فى أخر لحظة  خشية أن تمنعنى تلك الرحلة من السفر لأداء مناسك العمرة فيما بعد.

- القاهرة .. رمضان / ٢٠١٨:

ظروف قهرية منعتنى من السفر إلى مكة كما كنت أخطط وغضب عارم يجتاح كل كيانى، مكة بالنسبة لى ليست منسكا وانما مسكنا، اشعر أننى أملك الكعبة المشرفة، و أننى وحدى إلى جوارها ولا يشاركنى فيها أحد، أو بالأحرى هى التى تملكنى، أنا أسيرة هواها، ولكن أنى للعاجز أن يفوز بمحبوبته بعد أن صدته السبل! كنت كلما تذكرت خيباتى هناك هدأت نفسى الثائرة قليلا والتمست العزاء فى أننى لم ابرأ بعد، ولا قبل لى بمشقة تلك الرحلة، ولكن ما تنفك حتى تفتك بى نفسى مرة أخرى.

فجأة أخبرنى زوجى أنه عازم على أداء الحج هذا العام ولن يستطيع إصطحابى خوفا علىَّ بعد أن رأى ما كان من أمرى هناك. 

حاول إسترضائى فقبلت على مضض، كيف أمنع مشتاقا من زيارة بيت الله! ولكن ماذا لو أن الله لا يريدنى ولذلك ثبطنى؟ رددت بينى وبين نفسى وأنا أغالب دموعى: ربى إن لم يكن بك غضب على فلا أبالى.

وسط كل تلك المشاعر أرسل الله فى طريقى رسالة .

كانت الرسالة تحض على أن لا نسأل الله على قدر حاجتنا، ولكن علينا أن نسأله على قدر قدره سبحانه وتعالى، نسأل بيقين وثبات فوحده لا يعجزه شئ فى الأرض ولا فى السماء، هنالك دعوت ربى كما فعل نبى الله زكريا، دعوته بإلحاح رجل مقهور ضاقت فى وجهه السبل وبعناد طفل صغير يريد أن يتحدى كل العوائق التى باعدت بينه وبين غايته، سألته بذل وقهر ويقين أن يرزقنى الحج هذا العام مع زوجى، نعم الحج وليست العمرة، وهذا العام وليس عاما آخر، ثم تذكرت مرضى فدعوت بإلحاح أشد، وكأننى أريد أن أغيظ شيطانا ما يريد أن يصدنى عن بيته تعالى ، دعوته وأنا لا أكاد أميز كلمات الدعاء التى كنت أرددها بينما أجهش بالبكاء ولكنه وحده كان يعلم ماذا أقول، دعوته وأنا لا أعلم أنى سيكون لى هذا؟ ولكنى كنت أدرك أنه سيكون من عند الله كما أجابت السيدة مريم النبى زكريا عليهما السلام .

الساحل الشمالى ..الأول من ذى القعدة/ ٢٠١٨ :

قدم زوجى أوراق سفره لإحدى شركات السياحة ليحصل على تأشيرة الحج ، ثم سافرنا بعدها إلى الساحل الشمالى، مصطحبين معنا قطتنا الصغيرة.

"بسيمة" قطتى أراها من أجمل المخلوقات التى تشاركنى حياتى، ترافقنى أينما كنت، كثيرا ما تجلس معى أثناء إعدادى للطعام وتؤذيها رائحة البصل فتدمع عيناها ومع ذلك تأبى إلا أن تظل معى، لو مرضت تلازمنى الفراش بالأيام دون أن تمل، وعندما تجدنى حزينة تظل تداعبنى حتى أبتسم هى "وزيرة السعادة" بحق كما أحب أن أصفها .

هناك فى الساحل، كانت بسيمة متوترة كعادتها كلما غيرت مكان إقامتها، ما أن تسمع صوتا فى الحديقة حتى تختبئ مذعورة.

 فى يوم خرجنا نهارا بدونها بالطبع وعدت وحدى، ناديت عليها ولم تأت، فى البداية لم أكترث ولكن طال غيابها، دخلت حيث أضع لها الطعام فوجدته كما هو لم يمس منذ الصباح، حينها جن جنونى وأخذت أبحث عنها بلهفة فى كل مكان لم أدع ثقبا دون أن أبحث فيه لأكثر من ثلاث ساعات بلا جدوى، لابد أنها قد خرجت دون أن نلحظها .... ضاعت صديقتى .

بدأ الصداع يقتلنى، وحل على هم وحزن لا طاقة لى بهما، وفجاة تذكرت أنى لم أصل العشاء، فقررت أن أترك البحث مؤقتا وابدأ فى الصلاة وبعدها اؤدى صلاة حاجة لعل الله يهدينى إليها، و ما أن رفعت يداى بتكبيرة الإحرام حتى وجدتها تأتى إلى على عجل وتجلس عند قدمى لا أدرى كيف؟ وكأنها هبطت من السماء، أجهشت  بالبكاء وبدلا من أصلى صلاة حاجة ، صليت لله صلاة شكر .

أدركت يومها أن الله كثيرا ما يبتلينا ليدهشنا عند العطاء، ولأننا نعتاد النعم، لابد لنا من بعض الحرمان ولا سعادة تعادل تلك السعادة التى تأتى بعد جهد و طول انتظار. 

القاهرة .. منتصف ذى القعدة/ ٢٠١٨:

أحسست بآلام حادة فى القولون، ذهبت إلى الطبيب فوصف لى علاجا أخبرنى أن على أن أتناوله مرة واحدة فى اليوم، وكانت المفاجأة، بعد أسبوع واحد شعرت بتحسن عام، و أخيرا عرفت الراحة طريقها إلى جسدى المنهك منذ عدة سنوات، اتأمل حبة الدواء فى تعجب وأنا أقول: ليس الدواء ولكنها رحمة الله فقط الذى أذن أن تكونى سببا فى علاجى.

فى هذه الأثناء إتصلت بى صديقة مقربة منى لتسألنى: تحبى تحجى السنة دى؟ أنا وزوجى جاتلنا تأشيرات بس للأسف ظروف عمله لا تسمح، هو شارط عليا أطلع مع حد ثقة، إيه رأيك؟ تطلعى بداله؟

فى أقل من أسبوع كنت قد إنتهيت من كافة الإجراءات وقد تملكتنى مشاعر الخوف وعدم التصديق .

مكة المكرمة /  ذو الحجة ٢٠١٨

وكأننى فى حلم ، اكاد لا أصدق، فى بهو الفندق يقف البعض معترضا على موقع الغرفة او بطء الإجراءات، بينما أقف بعيدا اتأمل شوارع مكة من باب الفندق حيث يسير أمامى آلاف البشر يتحدثون بعشرات اللغات واللهجات، تسيل دموعى فى صمت و ذهول ثم أنظر تحت قدمى، أحقا أقف على أرض مكة!

أتممت الحج وأنا بكامل عافيتى بفضل الله وتمنيت أن تكلل رحلتى بالصلاة فى حرم رسول الله ، كان ذلك منتهى أملى .

المدينة المنورة / ذو الحجة ٢٠١٨

وصلنا إلى المدينة وقد بلغ منى الإرهاق كل مبلغ، أديت صلاة الفجر فى الحرم النبوى الشريف وقبل أن أعود وكلى قناعة بتلك  النعمة، تذكرت ذلك الدعاء، نعم لن أدعو وأنا أزور قبر رسول الله وأسلم عليه من بعيد كعادتى، دعوته سبحانه وتعالى أن يرزقنى الصلاة فى الروضة الشريفة رغم زحام الحج الذى هو أضعاف زحام العمرة ورغم الإرهاق ورغم وسوسة الشيطان بأن ذلك مستحيل، ورغم كل شئ .

توجهت فى موعد الزيارة بعد أن نصحتنى صديقة أن لا أتوجه مع الأفواج العربية لأن فترة الإنتظار ستكون أطول كثيرا حيث الأعداد أضعافا مضاعفة .

سألتنى احدى مشرفات الحرم بالعربية والانجليزية، هل أنت عربية؟ كدت لوهلة اجيبها No، ولكن حرمة هذا المكان لجمت لسانى فلم أنطق، ظنت أنى لم أفهمها على الأرجح، فأشارت إلى أن أنطلق مع وفد أجنبى محدود العدد.

لم يطل الوقت، ها أنا أصلى فى روضة الحرم النبوى الشريف، أصل إلى الروضة بل و أسجد على سجادها الأخضر لأول مرة منذ أن كنت طفلة صغيرة أعيش فى رحاب مدينة رسول الله.

- القاهرة ..ذو الحجة / ٢٠١٨ :

حسنا ، أنا الآن لست فى الجنة مازلت على الأرض، بكل ما فيها من كد وشقاء، أشعر ببعض التعب وأتعرض لكثير من السخافات، ولكنى رغم ذلك سعيدة لأنى راضية عن أقدار الله ،متفائلة، أدرك أنها دنيا، وأن أحداثها ليست صورة فوتوغرافية ثابتة، وانما هى شريط سينمائى يتحرك وأنك (لا تدرى لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا) ، فلا يجب أن نقف طويلا لنندب حظنا أمام إحدى اللقطات البائسة فى حياتنا.. أصبحت أثق فى حكمته سبحانه وتعالى و أنه ما حرمنى إلا ليسعدنى و أن هناك حياة أخرى تستحق أن نتعب لأجلها ونقدم لها و نظل واثقين من رحمته وحكمته مهما إشتد علينا البلاء وتأخرت إستجابة الدعاء ، فما أجملها من نعمة! (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) ، فهل هناك من هو أكثر حظا من صاحب هذا المآل!
 --------------------

بقلم: أماني قاسم
من المشهد الأسبوعي

مقالات اخرى للكاتب

جاء فى مستوى الطالب الضعيف