21 - 10 - 2024

د. يوسف حطيني في حوار لصحيفة المشهد: الأمة نُكبت بـ "الربيع العربي"

د. يوسف حطيني في حوار لصحيفة المشهد: الأمة نُكبت بـ

قاصّ وشاعر ٌ لسانُه مُوشَّى بصمْتِ المنافي.. وفي جعبته خمسةٌ وعشرون كتاباً وموسوعتان وألْف مصطلحٍ في السَّرد!

"الربيع العربي" نقل الصراع من هويته العربية/الصهيونية إلى هويات طائفية وقبلية وعشائرية.

نقلتُ فن "المقامة" من التركيز على طرد الفلسطيني من أرضه إلى الإصرار على عودته إليها؛ فسلاح الذاكرة يَخافه عدونا

مبدعو الأراضي المحتلة عام 1948يخضعون لقوانين تحارب اللغة والأدب وتغيير الهوية 

"في مدينة من مُدن الشمال الباردة، أشعَل قلبي إعلانٌ عن معرض للتراث الإسرائيلي، اتّكأتُ على غيظي، ودخلتُ؛ رحَّب بي رجل ذو عينين زرقاوين، ثم راح يتجول معي في المكان. كانت عباءة جدتي وسروال جدي يتوسطان المعرض.نظرت في عينيه مباشرة، وأخرجت له من جيبي مفتاح بيتنا القديم".. هكذا كتب قصته القصيرة جداً "لصوص" ضمن مائة قصة خصَّها لمعاناة الفلسطيني وحده، عدا دواوين شِّعر وموسوعات وكتب نقدية ومجموعات قصصية ورواية ترصد الحركة الإبداعية الفلسطينية في الداخل وفي الشتات؛ ليتسلح بذاكرةٍ يخافها العدو أكثر مما يخاف الجنود.

لوطنٍ خصَّه بمائة قصيدة قصيرة جداً كتب: "حنين":

وفيما يَرَى الحَالمُونَ اليَتَامى

رأيتُ سُنُوْنُوةً في الجَليلْ

تَزُورُ بَريدي صَبَاحاً، 

وتَخدُشُ صَدْري

وتَمْضِي إلى حُلُمٍ غارقٍ 

في الهَديلْ..

"المشهد" تلتقي بالدكتور"يوسف حطيني"الفلسطيني الأصل؛السوري المنشأ والتعليم؛ الأستاذ بجامعة الإمارات؛ الكاتب والناقد والشاعر والقاص والروائي؛ الذي قدّم للمكتبة العربية ما يزيد على خمسة وعشرين كتاباً في النقد والإبداع والتربية، الحائز على جوائز عدة في الإبداع الفني والقصة القصيرة جداً وأفضل رواية عربية وأفضل كتاب.. وكان لنا معه هذا الحوار:


*كيف تنظر إلى علاقة القارئ العربي بالأدب الفلسطيني: هل زاد الاهتمام أم تراجع لصالح قضايا أخرى تشغله في الفترة الراهنة؟

- شهِد الأدب الفلسطيني متابعة حثيثة من القارئ العربي في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، حيث كانت أفكار الثورة تملأ عقول الناس وقلوبهم، قبل أن يتراجع الاهتمام قليلاً لصالح الانتصار لقضية الفن؛ إذ لم يعد يكفي أن تنتج أدباً ثورياً لتكون كاتباً معروفاً على نحو ما كان الأمر من قبل، وظهرت أسماء تدافع عن القضية الفلسطينية بحماسة أهلها، وربما أكثر. وقد استمرّ هذا حتى نُكبت الأمة بـ "الربيع العربي" الذي فرّق الأهواء، وزعزع اليقينيات، وكرّس الرُّوح الوطنية أحياناً، والطائفية أحياناً أخرى، وكاد الأدب الفلسطيني يصبح من اهتمام الفلسطينيين فقط، الذين لم ينجوا أيضاً من الانقسام.


*ما تقييمكم للحركة الأدبية الفلسطينية؟ وهل المؤسسات الثقافية رغم الظروف القاهرة تقوم بواجبها نحو مبدعي الداخل والخارج؟

- ما تزال الحركة تحتفظ بألقها، وما زالت هناك أسماء جديدة ترفدها في فلسطين والشتات؛ على أنّ ما يُحزن أن بعض الأدباء الفلسطينيين دخلوا لعبة الاصطفاف السياسي في سنوات الخريف العربي الدامي، مما أَضرّ بالقضية الفلسطينية ذاتها. وقد برز ذلك في الشِّعر خاصة؛ إذ تحوّل بعضه إلى حامل لخبر، أو مدافع عن اصطفاف ذي أفق ضيّق، فتراجع الشِّعر الجيد لفقدانه الصدق والوعي معاً، وكل منهما شبه مفقود لدى شرائح واسعة من المجتمع العربي؛ إذ تمّ تغييب الوعي الإنساني والقومي لصالح مصالح دنيوية وأخروية مزعومة.

أما الشق الثاني من السؤال فمن الطبيعي ألا نرضى عن عمل المؤسسات الثقافية الرسمية، لأنها محكومة بسقف سياسي عام، بل ونطالب بتفعيل مؤسسات المجتمع الثقافية الأخرى، غير أننا في الحالة الفلسطينية يجب أن تنتبه إلى الظروف القاهرة التي تعاني منها مؤسساتنا المنتشرة في أمكنة مختلفة يخضع بعضها للاحتلال؛ ويعمل بعضها في المنفى، ولعلّ الذين يعانون الظروف الأكثر قسوة هم مبدعو الأراضي المحتلة عام 1948، حيث تحكهم ظروف الخضوع لقوانين تحارب اللغة والأدب والهوية.


* كتبتَ في فلسطين شِعراً ومسرحية وقصة ونقداً. 

- نعم، فلسطين هي الوطن والهوية؛ لذا يقيني ضرورة خوض المعركة الثقافية ضدّ عدوٍّ يخاف الذاكرة أكثر مما يخاف الجنود، فكان لابدّ من بعث الذاكرة والاحتفاء بالكفاح بجميع أشكاله، فكانت رسالتي للماجستير عن القاصَّة الفلسطينية سميرة عزام، والدكتوراه حول بنية الرواية الفلسطينية، ودرست فيما بعد القدس في الشعر العربي، ثم قدَّمت تجارب في القصة القصيرة جداً والقصيدة القصيرة جداً وفن المقامة.


*أُثير الكثيرآ  من النقد حول القصة القصيرة جداً؛ ما بين مؤيد ومعارض لذاك الفن الوليد، فما جهدكم في هذا الميدان؟

- لمَّا انتشر داء كتابة القصة القصيرة جداً عند "مدَّعي الإبداع" دخلت إليها التفاهة والسطحية والركاكة وغير ذلك من نقاط الضعف، وأبرز ما يثار حولها من النقد يتعلّق بعدم قدرتها على حمل دلالات إنسانية عميقة، من هنا حاولت في مجموعتي القصصية الأولى عام 2004 أن أعطيها بُعداً إنسانياً؛ فكانت حول معاناة الإنسان العربي، أمَّا مجموعتي الثانية: (جَمل المحامل: مئة قصة فلسطينية قصيرة جداً) فكانت لمعاناة الفلسطيني خاصة، والمقاومة بوصفها قيمة إيجابية، بعد تراجع الاهتمام بفلسطين بسبب طغيان الاهتمام بالخريف العربي وقضايا أخرى تمت إثارتها - كما أعتقد جازماً- لتشتيت الوعي العربي عن قضيته المركزية،ونقْل الصراع من هويته العربية /الصهيونية إلى هويات طائفية وقبلية وعشائرية. 

- وأشير إلى قصتين بالمجموعة:"ورقة حمراء"

في مدرسة الخليل الابتدائية رسمَ طفل على ورقة بيضاء ملعباً أخضر، وراح مسروراً آ يرسم أصدقاءه وهم يلعبون كرة القدم، بينما رسمَ طفل آخر في مستوطنة كريات أربع طائرة حربية تشبه طائرة أبيه، فجأة غادرت الطائرةُ الورقةَ البيضاء وحوّلت ساحة الملعب رعباً أحمر، وراح الطفل الخليلي يلم أشلاء أصدقائه، بينما تخضبت آ يداه بدماءٍ حارَّة.

-"ناجي العلي": 

متأمّلة لوحةً معلّقة فوق الجدار، كانت أمّ الشهيد تعاني نزعها الأخير.قالت لرَجل اللوحة الذي يدير لها ظهره معاتبة: لقد أصبح ابني فدائياً حتى آ يرى الفلسطينيون وجهك يا حنظلة، وها أنا ذي قاب فجرٍ من الموت، وأنت ما تزال مصرّاً على تجاهلي.في الصباح حَمل أهل المخيم جثة امرأة غرقى بدموع مالحة.

* "بنفسجة في سحابة" و"نجمة في سماء الجليل" مجموعتان شعريتان حملتا تصنيفاً لافتاً هو (قصائد قصيرة جداً). هل هناك صفات محددة تميّز هذا الشكل مِن القصائد؟

- كلُّ مجموعة تضم مائة قصيدة، وثمّة سمات تميّز هذا الشكل الموجود بطريق أو بآخر في مقطّعات الشعر قديمه وحديثه، ومنها الوحدة العضوية للقصيدة؛ والبناء الهرمي الذي يقود غالباً إلى إحداث الإدهاش، بالإضافة إلى ما يتوفّر في الشِّعر عادة من التجاور غير المألوف للمفردات والصورة الموحية وغير ذلك،هي نصوص إبداعية ما تزال مطروحة على سؤال النقد

وقد خصصت مجموعة "نجمة في سماء الجليل"لفلسطين وحدها، منها:

-"خذيني"

وآهٍ.. تجوبُ الجليلَ، 

وتصعدُ نحوَ المثلّثِ

تهفو إلى قمّة الجرمقِ العاليهْ

حَنَانَيْك أيّتُها الغاليهْ

خذيني إليكِ.. 

فقد جفّ ضرعُ القصيدةِ 

واللحنُ والقافيهْ

ـ ـ ـ ـ ـ

-"بوح"

باحثاً عن غَزَالٍ 

تَنَزَّلَ بين البُحَيْرَةِ والقُدْسِ

يَا لَهْفَ قَلْبِي عَلَيهْ

قُلْتُهَذَا اللّسَانَ المُوَشّى بِصَمِتِ المنافي

يُحَاذِرُ أنْ يَفْضَحَ السِّرَّ بِيْنَ يَدَيهْ

غَادَرَتْ أَضْلُعِي صَمْتَهَا

وَأَشارَتْ إِلَيهْ

المقامات لون شعري يحمِل أصالةً عربية؛ مُتجذرة؛ مُتميزة لغةً وتاريخاً لا تخطئها الذائقة السليمة.. أما زال القارئ يقبل هذا الشكل الأدبي رغم صعوبة اللغة المستخدمة والصنعة التي تغلب عليه؟ 

- للمقامة جمهورها الذي يتذوقها؛ وإن استثقلها البعض،وقد حاولت التجديد فيها فناً وموضوعاً؛ فعندما قدّمت كتابي "مقامات طريد الزمان الطبراني" أردت أن أضيف شيئاً إلى السائد المألوف في فن المقامة مع المحافظة على قوة الأسلوب ومتانة التركيب والسجع والتوازن اللفظي وغير ذلك؛ فقد انتقلتُ بها من موضوعها الاجتماعي إلى السياسي، وجعلت كل مقامة موصولة بما بعدها، عبر أسئلة السامعين عما يليها، واستثمرت فيها الشعر الفلسطيني والعربي والأمثال الشعبية الفلسطينية وغير ذلك، إضافة إلى مَوتِ سارد المقامات في المقامة الأخيرة، بعد أن يولد له حفيد اسمه "العائد"، لتنقل الحكاية رؤيوياً من دلالة طرد الشعب الفلسطيني من أرضه إلى دلالة الإصرار على عودته إليها.

*وماذا عن جديدك؟

- كتاب أصدرته منذ أيام: "مصطلحات السَّرد في النقد الأدبي"، يحوي شرحاً لألف مصطلح في مختلف فنون السَّرد في الرواية؛ القصة القصيرة جداً؛ المسرحية؛ المقامة؛الطرفة وغيرها، أما الجديد المنتظر فذو شجون! موسوعتان: "موسوعة الرواية الفلسطينية"؛ ويضم مسرداً بنحو ألف وخمسمائة رواية فلسطينية، و"موسوعة الشِّعر الفلسطيني"، تدرُس خصائصه، مع إضاءة إلى مسرد بالدواوين الشعرية الفلسطينية المطبوعة التي تم رصدها، وهي تبلغ نحو ثلاثة آلاف. وتتكوّن كل من الموسوعتين من نحو ألف صفحة، وما زالا ينتظران ناشراً منذ سنوات!
 ----------------

حاورته: حورية عبيدة