17 - 07 - 2024

بوكر 2018 - القائمة المختصرة(2 من 2): الحرب ذات النهايات المفتوحة قاسم مشترك

بوكر 2018 - القائمة المختصرة(2 من 2): الحرب ذات النهايات المفتوحة قاسم مشترك

- خراب وقتل وقلق وخوف من المجهول سمة جمعت الدول العربية فانسكبت في أعمال أدبائها. 

- الروايات المرشحة توضح تميز دور النشر اللبنانية وريادتها وفقدان القاهرة لبريقها

- مفردات "ديما ونوس" تضوع منها رائحة دمشق و"شهد الراوي" لاتستطيع الانعزال عن حرائق العراق

ترشحت عام 2018 ست روايات للقائمة القصيرة، الحالة الحرجة للمدعو ك. لعزيز محمد – السعودية، حرب الكلب الثانية للكاتب إبراهيم نصر الله – الأردن/فلسطين، الفائز بالجائزة، الخائفون للروائية ديمة ونوس – سوريا، ساعة بغداد للكاتبة شهد الراوي – العراق، وارث الشواهد لوليد الشرفا – فلسطين، بالإضافة إلى رواية أمير تاج السر، زهور تأكلها النار، والذى سبق له الترشح عام 2011 بروايته صائد اليرقات.

ست روايات من ست دول عربية، لكل منها صبغتها، أحزانها الخاصة، حبكتها الدرامية، مفرداتها، جغرافيتها وتاريخها. ست روايات تختلف فى الزمان والمكان وتتفق فى نهر الأحزان المتدفق من الخليج إلى المحيط. تقمص فيها الكُتاب دور الرواة، ثلاث بصيغة المذكر، وثلاث بصيغة المؤنث، ديمة وشهد، يضاف إليهما حكى أمير عن زهور أكلتها نيران ثورة المتقى بلسان خميلة، بطلة روايته.

الخائفون – ديمة ونوس

من السطور الأولى للرواية تفصح ديمة عن مفرداتها الخاصة وتراكيبها المطبوخة على مهل. تفوح منها رائحة دمشق بدكاكينها وطرقاتها وأزقتها تزينها ملاحة صباياها وأحلامهن المنشورة على أشعة شمس الصباح تدغدغها نسمات الخريف وتلسعها سفعات يوليو. تتخفى خلف الرواية لتحكى نتفاً من حياتها الشخصية وارتباطها بوالدها الكاتب الراحل سعد الله ونوس. بوح حر دون حرج. 

في عيادة الدكتور كميل بدمشق، حيث تخضع لجلسات علاج نفسى من حين لآخر، تتأمل (سُليمى) العيادة، حوائطها، ديكوراتها، مقاعدها، والمرضى. تتوقف عيناها عند رجل يجلس في الزاوية مفتول العضلات، (نسيم)، تُرى ما الذى دفعه لزيارة الطبيب هو وباقى المرضى، فخلف كل زائر للعيادة مصدر للخوف.

تتعرف سُليمى على نسيم الذى يكتب القصص والروايات، إلى جانب عمله كطبيب، لكنه ينشر أعماله باسم مستعار مخافة السلطة. منذ توفى والدها يلازمها الخوف، خوف من المجهول، من فقد والدتها، من شكاوى عمتها، إحساسها أنها على وشك فقد شيء ما. لا تنسى طفولتها في مدينة حماة ثم رحيلهم إلى دمشق هرباً من مجزرة النظام ضد أهلها العزل. من يومها، سقط أبيها من عين أمها وصار الخوف رفيقها. 

تجلس سليمى إلى طبيبها تحكى دونما ترتيب. يحاول دفعها إلى طريق النجاة اعتماداً على قوتها الذاتية فلا تستطيع. تترك دمشق إلى بيروت مع المواظبة على جلسات العلاج. لا تستغرق الرحلة بالسيارة بين العاصمتين أكثر من ساعتين. يكرر كميل عدم رضاه عن أسلوبها في الحياة، فلا شيء يدعو للاستقرار، تقيم في بيروت وتتلقى العلاج في دمشق، عملها لفترات متقطعة، ثم توتر علاقتها مع نسيم.

تتذكر أخاها فؤاد، الاستاذ بالمعهد العالى للفنون المسرحية ومشاركته في المظاهرات، تشجعه أمها ليأخذ بثأر كل الحمويين ويعوضها عن خروج أبيه المذل من المدينة، طالت غيبة فؤاد منذ خرج آخر مرة. تصبغ الفوارق الطبقية العلاقة بين العلويين والشعب، اختلاف المفردات واللكنة، البطش لأقل سبب. اعتقلت ابنة عمها لأنها صوتت بلا في استفتاء الرئاسة واختفت مُدرسة لأن ابنها، ذو الخمسة أعوام، جرجر صورة الرئيس على الأرض دون ان تنتبه.

تعج بيروت بالكثير من السوريين ومآسيهم، رحلوا يدفعهم الخوف من غد لا يعرفون شكله، صار حلمهم مخيماً يأويهم على الحدود، تركية سورية، لبنانية سورية، ألمانية نمساوية، وكأنما قدرهم أن يظلوا معلقين في الما بين بعد ما صار الوطن قبراً. ترك لها نسيم، قبل سفره إلى اليونان ومنها إلى المانيا في قارب مطاطى، مفتاح شقته لتمر عليها من حين لآخر. 

ما زالت غرفته غير المرتبة تحمل رائحته، في درج المكتب تعثر على أوراق بخط يده، ربما كانت رواية أو مسرحية شرع في كتابتها. تقرأ مشدوهة، إنه يروى حكايتها، تكتشف أنه الطبيب الذى كان يرعى والدها في المستشفى خلال أيامه الأخيرة قبل أن تتعرف عليه في عيادة طبيب كميل. يا لسخرية الأقدار. تجرى عيناها على السطور بحثاً عن خاتمة الرواية فلا تجد. تركها نسيم مفتوحة النهاية لتكملها هى، هاجر الجميع بعد ما أكلت الحرب الرجال لكنها، سليمى، تأبى الرحيل فتعود للإقامة فى دمشق خوفاً من الموت بعيداً عن تراب الوطن.

ساعة بغداد –  شهد الراوى

لا تستطيع شهد عزل روايتها عن حرائق العراق، حتى لو اختارت زماناً غير الزمان ، فالأحداث تفرض نفسها. عبر ثلاث صديقات يتناوبن على سرد حكايات الشارع وخصوصيات العلاقات بين السكان تمضى الرواية. نكتشف كيف صارت الحروب والمآسى علامات يؤرخن بها حياتهن وأجيال من العراقيين لم يعرفوا في حياتهم سوى الحروب والدمار والقتل والخطف والهجرة ، (ولدنا، أنا ونادية، في حرب السنوات الثمانى، وتعارفنا في عاصفة الصحراء، وكبرنا في سنوات الحصار وحرب الخليج الثانية. تناوب على طفولتنا، بالصواريخ والأسلحة المحرمة، جورج بوش، وابنه جورج دبليو بوش، في حين أن بيل كلينتون والعجوز مادلين أولبرايت تكفلا بتجويعنا، وعندما كبرنا كان الجحيم يجلس بانتظارنا).

تحكى شهد تفاصيل الحياة اليومية لأسرة عراقية تتناوب عليها الفصول والأحداث، حكايات المساء، الهرب إلى الملاجئ، جلسات السمر فى ليال غاب فيها القصف. موسم الشتاء وتساقط الثلوج. عادات وتقاليد. اليوم المدرسى. جرس الحصة. تعليقات المدرسين والمدرسات على موضوعات الإنشاء. قطع الطباشير يرسم بها التلاميذ على الحيطان قوارب شراعية وطيور تعبر الحدود إلى دفء الأمان. حديقة ذات أزهار. نهراً وجدولاً. يهربون فيها من واقع أليم يحاصرهم صباح مساء، قذائف وقنابل وصواريخ، ومشردين وايتام وأرامل، وصور معلقة على الجدران يؤطرها شريط أسود، بينما تنتظر باقى الصور شرائطها السود.

تتدفق كلماتها معبرة عن لحظة مغادرة الطفولة إلى الصبا. قلب يخترقه سهم. الإحساس المفاجئ بالحب. بأن الزمن يمر بك دون أن تدرى. لم تعد الضفائر الطويلة ذات الشريط الأزرق مناسبة للخروج. مرة يسافر الشَعَرَ يميناً ويسارا وأحياناً تفرقه على الجانبين أو قلدت تسريحة إحدى الممثلات اللواتى يملأن الشاشة صخباً حين تظهر. 

يسيطر فكر الرحيل عن الجميع، إما مقرونا بالموت أو الهجرة هربا من القلق والموت والخوف. هرباً من المجهول والمفاجئ غير المعلوم. هرباً من حصار تحولت معه ضرورات الحياة إلى كماليات. وقف الجميع على شفا حافة الكفاف. يوماً بعد يوم، تهاجر أسرة وتراجع أخرى قرارها بالبقاء، وما هي إلا أيام حتى تأتى سيارة كبيرة سوداء اللون، يعرفها ويكرهها الجميع، تحمل الأغراض والحقائب إلى جهة غير معلومة فيفقد الشارع شيئاً من حيويته حتى خلت فيلاته من ساكنيها وتحولت إلى كهوف يسكنها الحزن.

للحصار المضروب على بلد ما آلام لا يشعر بها إلا من يكابده. لكل سن مستوى آلامه الخاصة به، للطفولة تغيب علب اللبن والكراسات الملونة والألعاب الحديثة والملابس الملونة، للشباب لا مستقبل ولا فرص عمل مع تعليم محدود. يُسلب الجميع روح الأمل لتصبح الأيام بلا معنى ولا جدوى. يغيب الطعام من الأسواق وتصبح علبة الدواء حلماً.

غادر أهل الـمَحِلة منازلهم، وبقى الكلب برياد وحده، جاء سكان غير السكان. غاب الأنس والألفة من الشارع. ما عاد أحد يعرف أحداً. صبغت الغربة الجميع. تغيرت الحياة وصار كل شيء في يد آلهة الموت والخراب. تماماً، كما تنبأ الرجل المشعوذ في بدايات الرواية وقت مر بالشارع قبل سنوات. من يومها وهدير سيارات الشحن السوداء لا يتوقف. أُغلقت الأبواب على الفراغ والصمت والوحشة. بيتاً إثر بيت. تمضى السيارة إلى الحدود. تفرق الجميع وما عاد برياد يجد من يعطف عليه، يطاردونه من مكان إلى آخر، حتى وُجد ذات يوم قتيلاً تحت إطارات سيارة سوداء كبيرة كانت في طريقها إلى خارج البلاد. إيه .. يجف الفرات، يجف دجلة، يجف بَرَدىَ، ولا يجف نهر الألم الفوار ببلادنا العربية ولا يتوقف سريانه.


إطلالة أخيرة

رسمنا فى الفقرات السابقة صوراً لخمس روايات تضمنتها القائمة القصيرة لجائزة البوكر، الحالة الحرجة للمدعو ك. لعزيز محمد من السعودية، الخائفون لديمة ونوس-سوريا، ساعة بغداد للكاتبه شهد الراوي-العراق، وارث الشواهد، وليد الشرفا/ فلسطين، بالإضافة إلى رواية السودانى أمير تاج السر زهور تأكلها النار، والتى يمكن الإطلال على مشاهدها وسماتها فى الفقرات التالية.

سُردت الروايات بلسان الراوى، بمعنى تقمص ومعايشة الشخصية بدلاً من الحكى عنها جعلت الكاتب صانعاً للأحداث وليس شاهداً عليها، الأمر الذى سمح بمساحات خاصة للبوح والتخفى خلف الشخصيات الرئيسية فى الروايات. روت ديمة عن سوريا وفقدها والدها الكاتب المسرحى سعد الله ونوس والثورة السورية وما بعدها، وحكت شهد عن حياة أجيال تؤرَخ حياتهم بالحروب والمجاعات، بينما قص علينا وليد مشاهد طمس الهوية الفلسطينية. بوح شخصى تساوت فيه ألسنة الرواة، ثلاث بلسان المرأة وثلاث بلسان الرجل.

أيضاً، امتدت الروايات إلى توثيق الأحداث وعرض الجوانب الإنسانية الخفية، آثار الحصار الاقتصادى على العراق وتفاوتها طبقا للفئة العمرية، أطفال بلا لبن، وكبار بلا دواء، وشباب بلا مستقبل، في حين تعرضت رواية زهور تأكلها النار إلى البعد الإنساني لثورة المهدى ونظرة اتباعه إلى الآخرين كغنائم حرب وسبى حتى لو كانوا مسلمين، في حين عرض وليد بحرفية مشاعر عرب إسرائيل والفلسطينيين تجاه القضايا المشتركة، الأرض المسلوبة، التهويد، القضم المستمر لمساحات جديدة. 

من هنا، تظل الحرب القاسم المشترك بين الروايات الحرب بتبعاتها من دمار وقتل وخراب وقلق وخوف من المجهول. سمة جمعت الدول العربية فانسكبت وانعكست في أعمال أدبائها. أيضاً، فضل الكُتاب ترك نهايات رواياتهم مفتوحة يتخيلها القراء، كل حسب تصورهـ، في زهور تأكلها النار تتحرر خميلة من الأسر لكننا لا نعرف شيئاً عن والدها ولا خطيبها وهل نجحت في الوصول إلى أمها في الخرطوم أم لا. بينما اكتفت ديمة في الخائفون بسفر نسيم دون مزيد من التفاصيل لا عنه ولا عن سُليمى التى أبت البقاء في بيروت وقررت العودة إلى سوريا التى خلت من الرجال، أباها المتوفى، وأخيها المفقود، وحبيبها المهاجر. وفى رواية عزيز محمد، يستعد ك. السفر للعلاج في اليابان على أمل الشفاء عبر نظام علاجى جديد. 

أيضاً، طُعمت بعض الروايات بمصطلحات دارجة ولغات أخرى، عجت ساعة بغداد بالمرادفات العامية العراقية في الحوار بين الشخصيات، الأمر الذى قد يُلجأ بعض القراءة للبحث عن معنى هذه الكلمات، في حين طعم وليد روايته باللهجة العامية الفلسطينية وكلمات عبرية استدعاها الحوار.

تتبقى دور النشر، صدرت ثلاث من بيروت هما الحالة الحرجة للمدعو ك. من دار التنوير، بينما أصدرت ديمة روايتها من دار الآداب. ورواية أمير تاج السر من دار الساقى، وتعد الدار الأخيرة الأبرز في السنوات الأخيرة حيث سبق أن أصدرت رواية موت صغير للسعودى محمد حسن علوان الفائزة ببوكر 2017، بينما صدرت ساعة بغداد من دار الحكمة في لندن، وارث الشواهد من عَمَان عن دار الأهلية. وهو ما يشير إلى تميز دور النشر اللبنانية وريادتها بعد أن كانت تأتى بعد مصر.

______________
بقلم: د. محمد مصطفى الخياط