30 - 06 - 2024

"قرية الروضة" بعد عام على المذبحة: تعويضات لم تُصْرَف ومنازل لم تُسَلَّم

أسر الشهداء يروون لـ "المشهد" مأساتهم وخذلان الدولة – وحتى الأزهر- لهم

نعيش في عشش وجهاز تعمير سيناء يمارس إذلالنا ونطالب المحافظ بتشكيل لجنة لاستلام أعمال الجهاز

بعض أسر الشهداء والمصابين –وبينهم مجاهد حصل على نوط الامتياز- فى انتظار صرف مستحقاتهم من التعويض 

جثث متكومة فوق بعضها البعض على شكل هرمى بصحن مسجد الروضة وجثث ملقاة فى طرقات المسجد واخرى ملقاه فى الشوارع  اغتسل المسجد بدماءهم، تكومت الجثث على أبواب المسجد وعند المحراب، جرحى ومصابون يئنون من الآلام، نساء وأطفال ارتسمت على وجوههم ملامح الفزع والخوف، صراخ الأطفال يملأ المكان، هذه هى المشاهد الاولى عقب استهداف المصليين بمسجد الروضة يوم الجمعة الرابع والعشرين من شهر نوفمبر 2017م على يد تنظيم داعش الارهابى. 

رغم مرور عام على ذكرى مذبحة الروضة والتي راح ضحيتها المئات من ابناء القرية التابعة لمركز بئر العبد محافظة شمال سيناء، إلا أن هذه الجريمة البشعة لا تزال عالقة فى أذهان جميع أبناء سيناء، وخاصة أبناء قرية الروضة، حيث قام مسلحو داعش بمهاجمة المسجد أثناء أداء صلاة الجمعة، وتوزع الإرهابيون فرادى بالرشاشات فى شوارع القرية واقتحموا المسجد مع بداية خطبة الجمعة ليتم إطلاق الرصاص من رشاشاتهم على المصلين من جميع أبواب المسجد، ويدخلوا ياحذيتهم داخل صحن المسجد ليقتلوا كل حى من شيوخ ورجال وأطفال، فى مذبحة لم تشهدها مصر من قبل، راح ضحيتها 308 شهداء كانوا بين يدى الله رحلوا إلى أكرم الأكرمين متوضئين تائبين.

جريمة لم تستغرق أكثر من 45 دقيقة، فقدت الأمهات خلالها فلذات أكبادها، وفقدت الأخت أخاها، والزوجة زوجها والأب فلذة كبده، ومنهن من فقدت الأب والابن والزوج ولم يبق لها أحد يواسيها. 

تبقى مذبحة مسجد الروضة بمحافظة شمال سيناء حية فى ذاكرة مجروحى القلوب أهالى قرية الروضة وشاهدا على أبشع جريمة عرفتها مصر واحدي اكبر الجرائم التى ارتكبها التنظيمات الإرهابية فى ظل تراخي أمنى لم ينجح فى منع هذه الجريمة ولم يشف صدور الأمهات بالثأر لهؤلاء الشهداء لحظة قتلهم. 

فى مثل هذه الأيام من العام الماضى وقعت المذبحة، فانتفضت الدولة حينها وأعلن الحداد، وبعد شهور من المذبحة ترك المسئولون أهلها وتنصلوا من بعض وعودهم، لتشهد قرية الروضة ماساة حقيقيةفى  الذكرى الأولى لها. 

ترك المئات من الأهالى قريتهم، منهم من بحث عن مأوى فى محافظة الإسماعيلية ومنهم من ابتعد عن القرية الى مدينة بئر العبد، فأخليت من سكانها ولم يبق إلا القليل منهم، ومازال الأهالى فى انتظار أن تفى الحكومة بوعودها ببناء قرية جديدة ليعودوا اليها.

أسر الشهداء من الأمهات والأطفال والآباء أغلبهم يسكنون العشش، فى هذا البرد القارس بعد أن تركوا منازلهم التى تقوم الحكومة بترميمها ورفع كفاءتها، عام كامل لم يكف جهاز تعمير سيناء فى إعادة كفاءة المنازل، مما أثار غضب الأهالي. 

كانت لـ"المشهد" جولة داخل قرية الروضة التى تقع على الطريق الدولى  45 كيلومترا غرب مدينة العريش، شوارعها ووجوه أهلها وأطفالها ورمالها تذكرك بمدى المأساة التى تعانى منها، الحزن فى عيون الاطفال والنساء ولا حديث لهم فى هذه الأيام إلا ذكرى استشهاد احبابهم، الطرق فى القرية كئيبة لا تشاهد سوى بعض العمال الذين يقومون بالعمل فى المنازل وعفش المنازل خارج البيوت منذ عام مضى، ومسئولو مجلس المدينة وجهاز تعمير سيناء يسابقون الوقت للانتهاء من تجهيز المشهد للضيوف من مسئولى الحكومة، كلهم انشغلوا بدهن الأعمدة الكهربائية وتنظيف الشوارع من الأتربة، في مشهد لا يعبر إلا عن نفاق حكومى يذكرك بمشهد فى فيلم "جواز بقرار جمهوري" عندما استعدت القرية لاستقبال رئيس الجمهورية.

أهم ما يلفت الانتباه هو هذا الكم من العشش داخل القرية، وتراكم الرمال ومخلفات المبانى وسط الشوراع، قبل الوصول إلى المسجد الذى شهد المذبحة تقابلك سواتر ترابية بكل الشوراع المؤدية إلى المسجد وعربات شرطة تحرس المسجد، وانتشار لرجال الأمن فى المكان لحماية المصلين من أي هجوم إرهابى وقال لنا الأهالى أن هذه الحراسات تم وضعها عقب المذبحة. 

أثناء تجولنا داخل القرية وجدنا الاهتمام بالمنازل والطرق والخدمات القريبة من الوحدة المحلية والمسجد  والتى سيمر عليها المحافظ وضيوفه من الوزراء فى ذكرى المذبحة، أما الأحياء الجانبية للقرية، فلم تشهد أى خدمات، كما أكد الأهالى خاصة حى المطيرات والحى الواقع جنوب الطريق الدولى، حدثنا الأهالي عن تهالك الأسلاك الكهربائية بالقرية، والتى لم يتم عمل أي إصلاحات، كما وعد المسئولون، مما يؤدى ألى انقطاع الكهرباء فى أوقات الظروف الجوية السيئة.

تمت استضافتنا أثناء جولتنا بالديوان الخاص بالقرية رغم المأساة والمعاناة وذكرياتهم المأساوية عن مذبحة الروضة، لم ينسوا الكرامة والشهامة يستضيفون كل عابر سبيل يأتى إليهم يقدمون الطعام والشراب لوجه الله لكل زائر، ومواسي وعابر سبيل، جلسنا بديوانهم العامر بالكرم، لا حديث لهم إلا الحديث عن ذاكرتهم مع أحبابهم الشهداء، وكيف كان المكان عامرا بهم يتذكرون يوم المذبحة وتلك المشاهد المرعبة، إلا أنه لا يخفى عليك مدى صبر هؤلاء على فراق أحبابهم، تجد منهم من يتهامس مع شخص عن زيارة المحافظ المرتقبة، وتجهيزات النفاق التى  يقوم بها المسئولون من مجلس مدينة بئر العبد  استعدادا للاحتفال. 

زوجة مكلومة وعدتها الحكومة ببناء منزل، مازالت تعيش فى عشة ولم يتم بناء المنزل الموعود، وأخرى فقدت زوجها وأبناءها فى انتظار بناء منزل لها، قصص وراويات مأساوية يرويها أسر الشهداءلـ"المشهد"  بعد عام من مذبحة الروضة 

"كنت متوجها لأداء صلاة الجمعة، وعند اقترابى من المسجد وجدت عشرات المسلحين يوجهون أسلحتهم صوب المسجد، ويطلقون وابلا من الرصاص بشكل دقيق ويقتلون كل من يتواجد بمحيط المسجد، فتناثرت الجثث فى كل مكان، وتمكنت من العودة والهروب، بينما يتطاير الرصاص تحت قدمي، وأحد الأشخاص يتلقى رصاصة بالرأس، فيسقط على الأرض حرب بكل ما تعنى الكلمة، الرصاص يتطاير فى كل مكان ومازال ميكروفون المسجد، يصدح بنطق الشهادة من المصلين داخل المسجد"

بهذه العبارات روى لنا أحمد سالم (19عاما) أحد الناجين من المذبحة المشاهد الأولى للجريمة قائلا: سيارتان ربع نقل كانتا تقل عشرات المسلحين، توقفتا على بعد 50 مترا من المسجد من الجهة الشمالية، ونزل منها المسلحون بالأسلحة الآلية والرشاشات، وتفرقوا في محيط المسجد وقاموا بإطلاق الرصاص فى كل مكان، منهم من توجه الى المسجد وقام بإطلاق الرصاص على المصلين داخله، ومنهم من قام بملاحقة بعض المصلين الذين كانوا فى طريقهم لأداء الصلاة، وعند اقترابى من باب المسجد سمعت أصوات الرصاص من كل مكان، يتطاير بشكل مفزع.. هربت والرصاص يتطاير بجانبى وتحت قدمي، وكان معى أشخاص يحاولون الهروب، فقتلوا بالرصاص وأراد الله لى الحياة، وتمكنت من الهروب والاختفاء بأحد المنازل. 

وأضاف: عقب خروج المسلحين من المكان، توجهت إلى المسجد، فكان المشهد مأساويا لاتوصفه الكلمات، حيث وجدت كومة من الجثث فوق بعضها البعض على أبواب المسجد من الداخل، وأكوام جثث اخرى بالقرب من نوافذ المسجد وأخرى مكومة عند محراب المسجد.. قتلوا المصلين دون تمييز شيوخ على الكراسى ورجال وأطفال، اغتسل المسجد بدماء الشهداء حتى أنك لم تكن ترى سجاد المسجد من كثرة الدماء، كانت أقدامنا تغرق بدماء الشهداء، ونحن نحاول إنقاذ الجرحى.

يكمل الشاب سالم حديثه متذكرا تفاصيل المأساة: لم أتمالك نفسى فى الوهلة الاولى من بشاعة المشهد، ظللت أبحث عن والدى بين الجثث بالمسجد، وعثرت على جثة والدى بين أكوام الجثث، الكل هائم على وجه يبحث عن أقاربه.. الناس فقدوا أعصابهم من الوهلة الأولى للمشهد، جرحى يئنون من الآلام، وآخرون يلتقطون أنفاسهم الأخيرة بالشهادة، مشهد غاية فى الصعوبة وأنا أحاول إنقاذ الجرحى مع بعض الناس، فقدت أنا 24 شخصا من أعمامي وأبناء أعمامي. 

ويتحدث الشاب أحمد سالم عن وضع القرية بعد عام من المذبحة قائلا: لقد وعدونا بإعادة رفع كفاءة منازل أهالى القرية من قبل الحكومة وتم تفريغ المنازل منذ عشرة شهور لإعادة الترميم، إلا أن جهاز تعمير سيناء جعل الناس يبيتون فى العشش وعفش البيت فى العراء، وماطلوا فى البناء وأذلوا الناس بترميم منازلهم، وفى النهاية كان الترميم مهزلة. 

أم سليمان فقدت زوجها ونجلها الاكبر 

"كنت بالبيت أعد طعام الغذاء فسمعت أصوات الرصاص بكثافة، وصوت الميكروفون يصدح بالصراخ، هرعت إلى المسجد البعيد عن منزلنا حيث كان زوجى وأربعة من أبنائي يصلون، وبعد إخلاء الإرهابيين المكان، هرعت إلى المسجد ورأيت مئات الجثث خارج وداخل المسجد".. هذا ما روته أم سليمان التى فقدت زوجها ونجلها الأكبر، وهى تصف الحدث. 

تكمل أم سليمان وهى تتذكر ذلك اليوم: "رأيت الجثث بصحن المسجد فوق بعضها البعض، وجثث متناثرة فى المسجد، ظللت أبحث عن أبنائي، فوجدت نجلى سليمان 13عاما مضرجا فى دمائه وبجانبه والده يلفظ أنفاسه الأخيرة، وأنقذ الله أطفالى الثلاثة الذين تمكنوا من الهروب"

وبدموع الحزن تكمل أم سليمان: لن أنسى المشهد طالما كنت على قيد الحياة، فلن تتوقف دموع قلبى وعيونى إلا أن أرى هؤلاء الخوارج، مضرجين فى دمائهم حتى يرتاح قلبى، وسأظل أحكى لأبنائي عن الثأر لوالدهم وشقيقهم. 

الحاجة ربيعة (80 عاما) تقول: كان يوم صعبا من أصعب الأيام فى حياتنا، كنت بعشتى استمع إلى الصراخ ونطق الشهادة فى ميكرفون المسجد بعد سماع إطلاق نار كثيف عند منطقة المسجد، فاهتز قلبى وارتجفت جوارحى وقلت: لقد راح الرجال، قلت إنه عمل إرهابى خسيس، ووصلت لى الأنباء باستشهاد 17 شهيدا من أبناء إخوتى وأبناء عمى، كان الخبر صادما لي، ووقع على قلبى كالصاعقة، مات أغلى الناس، إنه يوم من أسوأ الأيام فى حياتى. 

وعن الذكرى الأولى لاستشهادهم قالت: لم أنسهم لحظة، لكى أتذكرهم، هم دائما على البال وأحياء فى قلوبنا.

وأضافت: أسر الشهداء يعانون من تجاهل المحافظة لهم، هناك أسر كثيرة لم يتم بناء منازل لها، ومازالت أرامل الشهداء تعيش فى عشش كما تراني الآن. 

16 شهيدا من أقاربي

جهاد أبوجرير شاب فى الخامسة والعشرين من عمره الابن الوحيد لأبيه الشهيد، حدثنا أثناء تواجدنا فى القريةعن ذكرى تلك الكارثة التى استشهد فيها والده وأعمامه الستة وأولاد أعمامه العشرة، فقال: كنت قد تأخرت في الذهاب إلى المسجد فى ذلك اليوم، وأثناء استعدادي الخروج إلى المسجد، سمعت صوت إطلاق نار وانفجارات قرب المسجد، فعرفت أنه عمل إرهابي، ولم أتحرك من المنزل وهو قريب من المسجد، فوجدت بعض الناس يحاولون الهروب والإرهابيون يلاحقونهم ويطلقون الرصاص عليهم، بعد انسحاب الإرهابيين توجهت الى المسجد، فكان المشهد صعبا جدا لن انساه أبدا، الجثث فى كل مكان فوق بعضها البعض، صرت كالمجنون أبحث عن والدى فوجدته بالقرب من المحراب تحت جثث الناس، والدماء تسيل فى المسجد، أخرجت والدى وأعمامى وأولاد أعمامى ليتم دفنهم فى مقبرة جماعية. 

يكمل الشاب أبوجرير: عقب الحادث انتفضت الدولة وتحرك المسئولون، ولكن لفترة من الوقت، سمعنا وعودا كثيرة، مثل بناء منزل لكل شهيد وتعيين أبناء الشهداء فى وظائف آبائهم، ولكن للأسف، لم ينفذ أى وعد من هذه الوعود، فقط تمكنت من صرف التعويض الذي أعلنه رئيس الجمهورية، وحاولت الحصول على منزل من جهاز التعمير بناء على وعود الحكومة، إلا أن ذلك لم يحدث  ومازلت عاطلا بدون عمل، وأعيش حاليا أنا ووالدتى وزوجتى وأبنائى فى منزل بالإيجار. 

أم محمود فقدت زوجها وابنها البكر تعيش فى عشة بقرية الروضة قالت لنا: الحياة صعبة بعد أن فقدت زوجى وولدى الأكبر، ذكرى استشهادهم ذكرى مريرة علينا، فقدنا فيها أغلى الناس ونعيش حياة سيئة بعدهم، لم نجد من يحنو علينا، لم يلتفت إلينا أحد من الحكومة لبناء منزل، أنا وأبناؤه، ومازلنا نعيش فى هذه العشة التى تراها  وانتظرنا عاما كاملا، لكى نحظى بمنزل مثل غيرنا، إلا أن الانتظار طال وقطعنا الأمل. 

بلهجة بدوية قالت: "حسبى الله ونعم الوكيل يارب ورينى في الإرهابيين يوم أسود وريح قلبى، دعاء طلبته من الله وأنا أطوف بالكعبة"، وتضيف أم سلمان: فقدت زوجى وفلذات كبدى سلمان ومحمد وهم يؤدون الصلاة وصلنى الخبر بوفاة كل من لي في الحياة، ولم يبق لى سوى الله أرحم الراحمين، أعلم أنهم عند رب كريم  وأحمد الله أن ألهمنى الصبر على فراقهم، والله لم أنسهم لحظة.. كانوا ونسي وحياتى.  

وتكمل أم سلمان: الحياة صعبة.. أريد أن أعيش باقى حياتى فى منزل ولو بسيط، أقضى فيه ما تبقى لى من العمر، أود من الحكومة أن تبنى لى منزلا، فأنا أعيش فى عشة والحالة صعبة. تركنا أم سلمان فى عشتها وهى تصر على استضافتنا على الغداء، بشهامة وكرم البدو، فاعتذرنا لها واحترمنا طلبها فى عدم التصوير، وطالبتنا بالدعاء لأبنائها وزوجها.

تركونا بلا مأوى

أبو طه (42 عاما)، فقد نجله الأكبر فى مذبحة الروضة واصيب هو أثناء الجريمة البشعة، يقول: كان يوما صعبا للغاية، أثناء وجودى بالمسجد استمع لخطبة الجمعة، حدث إطلاق نار كثيف، نظرت فوجدت مسلحين يقتربون من أبواب المسجد.. فزع الناس وتراكموا فوق بعضهم البعض، فنمت على الارض وتراكمت الجثث فوقي، شعرت بطلقة رصاص فى ظهرى وأصوات الناس تنطق بالشهادة، استمعت إلى الإرهابي وهو يقول: "اقتلوهم كلهم", شاهدت الرصاص يصوب نحو رؤوس الناس وأنا فى ثبات عميق، أخاف أن أتحرك، فأتعرض الى طلقة رصاص تودي بحياتى، لم أنطق بأى كلمة سوى الشهادة، مشاهد غاية فى الصعوبة لن أنساها، فقدت فيها نجلى الأكبر وأشقائى أحمد ومصطفى وأبناء عمومتى وأبناءهم، فقدنا كل شيء مع رحيلهم، لن يعوضهم شيء.

ويكمل أبو طه: رحلنا من قريتنا فى الشيخ زويد بسبب الإرهاب، ليستقر بنا المقام فى قرية الروضة، فحدث لنا ما حدث، انتظرنا عاما ليتم بناء منازل لأسر الشهداء، لم يحدث للأسف، جهاز تعمير سيناء يميز بين الناس، فقد قاموا ببناء منازل لمن ليس لهم شهداء وتركونا بدون ايواء، ونستعد لبناء عشة بالبلاستيك لكى نقيم فيها. كل ما نطلبه هو أن تقوم الحكومة برعاية أسر الشهداء، لأنهم فى حالة يرثى لها، ويحتاجون إلى منازل تأويهم من برد الشتاء، وأسر الشهداء لايتسولون لأى مسئول، فهم يعلمون جيدا أسماء الشهداء وأماكن إقامتهم. 

زوجة شهيد رفضت ذكر اسمها قالت لنا: "منزلنا لم يقترب منه أحد، رغم أنهم قاموا بترميم المنازل التى حولنا، وأحيانا يقولون المنزل يحتاج إلى إزالة، ومرة يقولون يحتاج إلى ترميم، لقد أذلونا.. وجعلونا نتسول حقوقنا من مهندسى جهاز التعمير. 

أريد العودة ولا مكان

السيدة أم محمد (زوجة شهيد تعول 3 أطفال أقل من 11 عاما) تعيش بالإسماعيلية فى عشة مع أبنائها، حدثتنا قائلة: أريد العودة إلى قرية الروضة بعد أن رحلت بعد استشهاد زوجي، ولكن لايوجد لى مكان أعيش فيه حيث كنا نسكن أنا وأولادى وزوجى قبل استشهاده فى منزل بالإيجار، وقد وعدونا ببناء منزل صغير لنا عقب استشهاد زوجى، ولكن حتى الآن لم يحدث أى شىء.

أضافت: علمنا أن مجلس المدينة يتلقى طلبات الراغبين في بناء منازل من أسر الشهداء، تقدمنا بطلب إلى الوحدة المحلية لقرية الروضة، إلا انهم قالوا لنا: لقد تم الانتهاء من تلقى الطلبات، وأنا فى الإسماعيلية لم أعلم بهذا الإعلان، كل ما أريده هو بناء منزل لى بالقرية، حيث أننى أملك قطعة أرض داخل القرية، بالإضافة إلى الإعانة الشهرية الخاصة بالأزهر الشريف"إعانة بيت الزكاة"  لم أتقاضى منها شيئا حتى الآن. 

السيدة أم حميد استشهد ابنها بمسجد الروضة، تملك منزلا من غرفة ومطبخ من الطوب بدون أي إمكانيات، طالبها مهندسو جهاز تعمير سيناء باستكمال بناء المنزل، على أن يقوم الجهاز بالتشطيب، رغم أنه قام بتشطيب جراجات سيارات ومحلات تجارية وأسوارا لأناس ليس لهم شهداء، وتجاهلوا والدة الشهيد واكتفت بترديد عبارة "حسبى الله ونعم الوكيل" 

لم يتوقف الأمر عند ذلك، فأثناء جولتنا فى قرية الروضة، التقينا بأحد مجاهدى سيناء ضد الاحتلال الصهيونى، حاصل على نوط الامتياز من الطبقة الاولى من رئيس الجمهورية، يبلغ من العمر 80 عاما، فقد ثلاثة من أبنائه بمسجد الروضة على يد الإرهاب، كان قويا متماسكا راضيا بقضاء الله  بعد استشهادجميع أبنائه فى الحادث المروع، تبدو ملامح الحزن على تقاسيم وجهه، يعانى من أمراض عديدة لتقدمه فى السن  بدأ حديثه لنا قائلا:"قدمت للوطن الكثير واعتقلت ثلاث سنوات بسجون الاحتلال ولم ولن أبخل على الوطن،  قدمت النفس والنفيس لله وللوطن ولم أنتظر المقابل، فهذا واجبى ولكن ما كسر قلبى ولم يكسر عزيمتى وقوتى هو استشهاد أبنائي الثلاثة على يد الخوارج، وهم داخل المسجد يؤدون فريضة الله، وعزائي أنهم مع الشهداء والنبيين، وسأظل أقدم للوطن التضحيات حتى ألقى الله. 

ويضيف:"لم ولن أنسى تلك اللحظات عندما وصلت إلى المسجد، فوجدت أبنائي الثلاثة مضرجين فى دمائهم داخل المسجد على يد هؤلاء الخوارج الذين لا دين لهم، حملتهم ودفنتهم بيدى وأعلم أنهم عند أرحم الراحمين" 

ويكمل بنبرات حزن وعتاب على الدولة: "لم أكن أعلم أن الدولة يمكن أن تتجاهلنا بهذا الشكل، لم يتم صرف مبلغ التعويض الخاص بنجلى الشهيد عمر ونجلى الآخر رمضان وهو مبلغ قام رئيس الجمهورية برصده لاسر الشهداء، عام مضى لم يتم صرف المبلغ، وأحفادى فى انتظاره ليكون عونا لهم فى المرحلة القادمة"

خديعة من الإرهابيين 

"تكومت فوقي أكثر من 10 جثث وأنا داخل المسجد، كنت أتنفس بصعوبة، سمعت إطلاق رصاص وانفجارات داخل المسجد، لسانى يردد الشهادة فى انتظار الموت، لحظة هدوء توقف فيها إطلاق النار فسمعت شخصا يقول: "قوموا فإنهم مشوا" قام  البعض من المصابين، فإذا بالإرهابيين يقومون باطلاق الرصاص على من قاموا، وسمعت أحدهم يقول: اقتلوهم ولا تبقوا منهم أحدا".. هذا ما يتذكره المواطن عبد الفتاح حمدان أحد الناجين من المذبحة في حديثه معنا، ويكمل: لقد كانوا يتجولون فى المسجد يبحثون عن أي شخص يتنفس فيقومون بقتله وكانوا يطلقون الرصاص فى الرأس خاصة على الأطفال، فلم يسلم منهم أحد فى المسجد، لم يسلم إلا من كان تحت الجثث المتراكمة بعضها فوق بعض، كانوا يبحثون عن أى حى، وأرادوا إبادة كل المصلين بالمسجد. 

التقينا بعائلة بها 22 شهيدا سقطوا بمسجد الروضة، لم يرحمهم مهندسو جهاز تعمير سيناء، فأذولهم من أجل ترميم منازلهم، وهم أهالي الشهداء سلمى مطير ناصر وأولاده أحمد ومحمد ويونس، حيث يماطل جهاز التعمير فى ترميم منازلهم منذ عام.

يقول خالد سلمى:"نمتلك 6 منازل بقرية الروضة لأسر الشهداء، وهى منازل قديمة وقد تم حصرها لرفع كفاءتها من قبل جهاز التعمير، وإلى الآن لم يتم عمل أى شىء، رغم أن المهندسين وعدونا بذلك منذ عام، ولم يتم عمل اى ترميم،.. تحدثنا مع المحافظ وإلى الآن لم ينفذ أى شىء، رغم أن الجهاز قام بترميم بعض منازل المواطنين خارج القرية، وليس من بينهم أى شهيد، فمن أولى بترميم منزله؟ أسر الشهداء أم من؟ ما يحدث من جهاز التعمير مهزلة، يتعاملون معنا كأننا متسولين بكل عجرفة وإساءة، حتى أن خط المياه رفضوا توصيله لمنازلنا القديمة كما يحدث مع باقى منازل القرية، بالإضافة إلى صرف مستحقات والدي الشهيد بالمسجد، من التعويض الذى أقره رئيس الجمهورية لأسر الشهداء. 

داخل إحدى العشش التقينا بسيدة أرملة شهيد، معها طفلان أحدهما من ذوى الاحتياجات الخاصة، قالت "زوجى استشهد بمسجد الروضة، وحيث أننا فقراء ولا نملك ما نبني به منزلا لكى نعيش فيه، قالوا لنا بعد الحادثة أنهم سوف يقومون ببناء منزل لنا، وإلى الآن لم يات لنا أحد، وأنا أعيش فى ظروف قاسية فى هذه العشة، خاصة ونحن نمر بشتاء قارس البرودة"

أضافت قائلة: "ما حدث لنا العام الماضى باستشهاد زوجى وأقاربى، لن ننساه، فقد فقدنا أغلى الناس وأصبحت القرية مساكن أشباح وحسبى الله فى كل من يتاجر بدماء الشهداء" 

وعود الحكومة بعد المذبحة

فى تصريحات صحفية أواخر يناير الماضي قال رئيس منطقة تعمير شمال سيناء المهندس مصطفى عايش محمود "إن وزارة الإسكان تعمل، من خلال الجهاز المركزي للتعمير، على رفع كفاءة جميع المنازل القائمة، وإنشاء 51 منزلا جديدا، وكذلك رفع كفاءة الطرق الداخلية بطول 5 كيلومترات، وإنشاء شبكة مياه بطول 14 كيلومترا شاملة خزان أرضي سعة 1000 متر مكعب، وإنشاء مبنى خدمي لعرض منتجات القرية من المشغولات اليدوية والحرفية بأنواعها، وتبلغ قيمة التكلفة التقديرية لتنفيذ تلك الأعمال حوالي 82 مليون جنيه.

وأضاف أنه تم إجراء الرفع المساحي لقرية الروضة الجديدة، والتي ستُقام على امتداد القرية القديمة، وجاري إعداد المخطط العام لإقامتها من قبل هيئة التخطيط العمراني؛ تمهيدا للبدء في التنفيذ، وستضم القرية ما بين 250 إلى 300 منزل بتكلفة تقديرية حوالي 125 مليون جنيه شاملة أعمال المرافق" 

انتهت تصريحات مسئول التعمير 

الواقع الآن يخالف ما جاء فى تصريحات المسئول، لم يتم رصف طرق القرية ولم يتم رفع كفاءة المنازلحسب المواصفات حيث قام جهاز تعمير سيناء بتوزيع أعمال ترميم المنازل على المقاولين بالأمر المباشر مخالفا قانون المناقصات والمزايدات، حيث تم توزيع  المنازل التى تحتاج إعادة كفاءة الى المقربين من رئيس الجهاز من المقاولين، بالإضافة إلى أن هناك منازل لم يتم إعادة كفاءتها، ولم تكن هناك أي اولويات فى تنفيذ هذه الأعمال، حيث اعتمد جهاز التعمير على المظهر الخارجى للأسوار داخل القرية لالتقاط الصور، وكانت الأولوية لبعض جراجات السيارات والمحلات، مع تجاهل منازل أسر الشهداء، وقد أجبر مهندسو التعمير بعض الأهالى على توقيع محضر استلام، رغم أن منازلهم مخالفة للمواصفات وأسقفها لا تمنع الأمطار، كما اهتم الجهاز باعادة كفاءة المنازل القريبة من الشارع والتى سوف يتفقدها المحافظ فى الاحتفال بذكرى المذبحة، ولم يتم عمل خزان مياه كما وعدوا بذلك، وحتى الآن لم يتم بناء قرية جديدة كما وعدوا مما يؤكد أن الوعود ذهبت أدراج الرياح. 

وهذه وعود أخرى لم تتحقق

- وعد عمل  صرف صحى للقرية وتحويل توصيلات الكهرباء من أعمدة إلى كابلات أرضية 

- وعد إعفاء أبناء قرية الروضة من دفع الفواتير وفوجئوا بفواتير الكهرباء تتراكم عليهم لعدم وصول محصل الكهرباء إلى القرية.

- وعد عمل نصب تذكارى على اعلى مستوى وسط القرية ليكون ذكرى وشاهدا على هذه المذبحة.

ولهذا يطالب أهالي الروضة اللواء محمد شوشة محافظ شمال سيناء بتشكيل لجنة خاصة من المحافظ لاستلام كل اعمال جهاز تعمير سيناء التى تحوم حولة الشبهات فى أهدار أموال الدولة. 

كما يطالبون المحافظ والحكومة بسرعة صرف مستحقات أسر الشهداء من التعويضات المقررة لهم وكذلك تعويضات المصابين فى الحادث، وطالب الأهالى شيخ الأزهر بسرعة صرف الإعانة الشهرية لبعض أسر الشهداء والمصابين، مثل باقى أبناء القرية من غير أسر الشهداء، بناء على الوعد الذى قطعه شيخ الأزهر على نفسه.

ما سبق جزء يسير من صور معاناة أسر الشهداء بعد عام من ذكرى مذبحة الروضة التى راح ضحيتها 308 شهداء، والذين لم نتمكن من مقابلة أغلبهم، حيث رحل منهم من رحل عن القرية، واستقر بمكان يرى أنه الأكثر أمنا ولم يبق غير القليل منهم داخل القرية، الكثير منهم يعيش فى عشش بعد تخلى الحكومة عنهم، ومنهم  مازال عفش بيته خارج منزله فى انتظار أن يتم اعادة رفع كفاءته من قبل جهاز التعمير.

كل منزل شهيد به روايات ومآسى تقشعر لها الأبدان تحتاج الى تحقيقات وكتب، ولن تستطيع الحروف التعبيرعن مدى المأساة التى شاهدوها فى مذبحة الروضة، وووضعهم المأساوى ومدى المعاناة التى يتعرض لها أسر الشهداء. 
----------------------
تحقيق وتصوير: عبدالقادر مبارك

لمشاهدة الصور.. اقرأ على الموقع الرسمي







اعلان