17 - 07 - 2024

تعا اشرب شاي| فضلا .. راقبوا ملابسكم

تعا اشرب شاي| فضلا .. راقبوا ملابسكم

تعود بى الذاكرة إلى الماضى، تأتينى الذكرى كطيف يومض ثم يخبو فجأة، فقد كنت دون الرابعة من عمرى، أقف فى بهو منزلنا الفسيح، ﻻ زلت أتذكر مكان الحدث وأتذكر أمى وقد قرب صبرها على النفاد، أكاد أﻻ أشعر بأطرافى من شدة البرد، هكذا أنا ﻻ أتحمل برد الشتاء.

أسمع صرير الهواء فى الخارج رغم بعدى عن النافذة، أبكى بشدة: أريد أن أرتدى فستانى الأبيض ذا النقوش الوردية، وأمى تصرخ: إنه ﻻيناسب جو الشتاء، لقد وضعته فى الخزانة حتى يأتى فصل الصيف.

 حاولت كثيرا أن تشرح لى أنه ثوب خفيف، ﻻ يناسب برد الشتاء ولكنى لم أكن أهتم إﻻ بشئ واحد، متى سيأتى ذلك المدعو صيفا؟

ربما كنت أنتظره كل صباح وأسأل أمى بلهفة إن كان قد جاء؟ فإذا طرق أحدهم الباب، أهرول إليه لعله قد رأف بحالي وأتى.

 كنت طفلة قنوعة وأتعلق بأشيائى بجنون، وكأنها جزء من كيانى، بيننا عشرة وذكريات مشتركة، ﻻ يمكن أن أفرط فيها وأكاد أجن إن أصابها مكروه، ثيابى.. قطتى ..احذيتى.. لعبى ..... الخ .

وأخيرا أخبرتنى أمى أن الصيف قد جاء، وبدأت تفتح الخزانة لإخراج الثياب، تقف على حافة الكرسى وتلقى بالملابس فوق السرير، وأنا اتلقاها بلهفة وأبحث عن ثوبى الثمين بينها، وأخيرا ألقت أمى بالثوب، كانت رائحته غريبة، أخبرتنى أمى أنها رائحة "النفتالين"، أخذته منى ونظرت إليه بدقة ثم نظرت إلى قائلة: لقد صغر عليك الفستان، سأعطيه لـ "نادية" وسأشترى لك آخر.

لم أفهم ما تعنيه أمى فنظرت إليها بغضب وقلت لها: لقد قلت لى أن الصيف قد أتى، إعطنى فستانى، وأخذت أضرب الأرض بقدمى الصغيرة ودموعى تنساب لتعبر عن قهر بالغ.

 أخرجت أمى زفيرا طويلا ولم تتكلم،  فقط وضعته على جسدى الصغير قائلة: أنظرى سيكون صغيرا عليك.

كانت أمى حريصة أن تصنع لى فستانا آخر قبل أن تتخلص من ذلك القديم، فأخذت تتطلع فى المجلات، حتى إختارت لى تصميما ثم قامت بحياكته، كانت أمى بارعة بحق فى هذا المجال،  كان الثوب الجديد رائعا، إﻻ أن وداع الثوب الأول كان صعبا على بالتأكيد، وعندما جاء الشتاء، راقبت أمى وهى تضع فستانى فى الخزانة وقمت بشئ فى غاية الغرابة، لقد كنت أجلس بالساعات أمام الخزانة كى أحرس ثوبى الجديد حتى ﻻ يصغر على كما حدث للثوب الأول.. هكذا هدانى عقلى الصغير وأعتقد الآن أننى كنت محقة.

أمر آخر ظل يشغلنى للغاية، فقد كنت فى تلك السن  أجلس فى السيارة وهى تطوى الطريق، وتكاد رقبتى الصغيرة ﻻ تهدأ من مراقبة أعمدة الإنارة و الأشجار المصطفة على جانبى الطريق واسأل أبى فى براءة: لم تتراجع هذه الأشياء عندما نسير بالسيارة؟

حاول أبى كثيرا أن يقنعنى أننا من يتقدم ولكنها ثابتة ﻻ تتراجع، فلا يمكن لهذه اﻻشياء أن تتحرك، حاولت أن أستوعب ما قاله أبى ولكن لم أستطع، وظل عنقى يودع الأشجار والأعمدة حتى تختفى عن ناظري .. وأعتقد الآن أننى كنت محقة أيضا.

عندما أنظر الآن إلى بلدى مصر وأرى كل السيارات تتخطاها وهى تتراجع يسيطر على الحزن، وأدرك أن جزءا من الكون يمكن بالفعل أن يتراجع، و لكن لم يعد عنقى يؤلمنى، نظرى هو الذى كَلْ من متابعة السيارات التى تطوى الطريق وتودعنا وهى مشفقة على بلد السبعة آﻻف عام.

وكنت محقة عندما جلست أراقب ثوبى فى الخزانة كى ﻻ يضيق، بينما نحن ﻻ نشغل بالنا بمستقبل وﻻ نخشى أن تضيق علينا ثيابنا، لن تأتى أمى بثياب جديدة، لقد نضجنا بما يكفي لأن نعتمد على أنفسنا.

ﻻ يصح لبلد المئة مليون أن تنتظر فوانيس رمضان القادمة من الصين كل عام، ﻻ يصح أن نكرر الخطأ مرة و مرتين وثلاث وﻻ نتعظ أبدا، ﻻ يليق أن ندرك فجأة أن الشتاء قد حل وتغرق شوارعنا فى "شبر ميه" كالعادة، أو أن الصيف قادم ولم نستعد بحلول لمشكلة إنقطاع التيار الكهربائي.

مصر تستحق أفضل من ذلك، فلم يبخل علينا الإله الكريم بشئ، ماذا ينقصنا لنتقدم او لنتساوى مع غيرنا؟ رجاء راقبوا ملابسكم.
---------------------
بقلم: أماني قاسم
منشور في العدد الأسبوعي للمشهد 

مقالات اخرى للكاتب

جاء فى مستوى الطالب الضعيف