عندما ظل ضابط شرطة " مينيابوليس " بأمريكا يضغط على رقبة المواطن الزنجى جورج فلويد لمدة أكثر من تسعة دقائق ليلفظ أنفاسه الأخيرة دون الإذعان لصرخاته، لم يدر بخاطرى أن تلك الواقعة حدث مثيل لها فى مشهد سينمائى لايقل عنه عنفا وقسوة وذلك فى فيلم "American History X” حيث أجبر بطل الفيلم العنصرى رجلا زنجيا على الانبطاح على بطنه ووضع رأسه على الرصيف وبينما فكه العلوى على حافة الرصيف، قام بتوجيه عدة ركلات بقدمه على رأس الزنجى لتتحطم أسنانه ويسيل الدم من أنفه وفمه، وبعد أن يبتعد عنه بضعة خطوات يعود اليه مرة أخرى ليحطم رأسه!.
وبالرغم من أن هذا الفيلم يعد من أهم وأقوى 250 فيلما عرضتها سينما هوليوود على مدار تاريخها، حيث فضح الفيلم مدى عنصرية المجتمع الأمريكى التى لازالت متجذرة هناك، وأصبحت تلك التنظيمات العنصرية من الجرأة فى الوقت الحالى لتخرج بمسيرات فى شوارع أمريكا منذ تولى رونالد ترامب السلطة، ووقت إنتاج الفيلم تمكنت جماعات الضغط داخل هوليوود من الحيلولة دون حصوله على أي من جوائز الأوسكار.
يتناول فيلم "American History X" قصة ديريك الذى قام بدوره الممثل العبقرى "ادوارد نورتون" من جماعة "سكين هيد" رئيس أحد التنظيمات العنصرية الذى رباه والده على كره الزنوج وزرع فيه هذا الشعور منذ نعومة أظافره، وزاد هذا الشعور تأكيدا عند احتراق والده أثناء اخماده حريق فى أحد أحياء السود بأمريكا، مما دفع الابن الى الانضمام الى جماعة "سكين هيد" العنصرية لمهاجمة السود والعمل على طردهم من البلاد ونهب متاجرهم والاعتداء عليهم وقتلهم.
ولمن لا يعرف "جماعة سكين هيد" التى ينتمى اليها بطل الفيلم، فهي جماعة حقيقية موجودة بالفعل وهم من الصلع وحالقى الرؤوس ذوي البشرة البيضاء، تنتشر فى بعض ولايات أمريكا وتتمركز تفرعات لها فى روسيا وألمانيا بشكل كبير وكثير منهم يعتنقون الفكر النازى وشريحة كبيرة منهم تعيش على السرقة وتجارة المخدرات والدعارة.
ويعيد فيلم "American history x" الى أذهاننا أيضا نشأة عصابة "كو كلوكس كلان" إحدى المنظمات العنصرية التى نشأت وتكونت عام 1865 من قبل ستة ضباط سابقين فى الجيش الفيدرالى وقد أطلقت على نفسها المنظمات الاخوية الأمريكية التى تؤمن بتفوق الجنس الأبيض، وتعمدت استخدام العنف والارهاب وممارسة التعذيب كالحرق على الصليب لمن يكرهونهم مثل الأمريكيين الأفارقة وغيرهم، كما دعت الى محاربة تحرير العبيد التى حدثت عقب الحرب الأهلية الأمريكية، وقد انحسر دورها نوعا ما على فترات متباعدة فى التاريخ ثم عادت للظهور فى الخمسينات والستينات اعتراضا على صدور قانون الحقوق المدنية ضد العنصرية، حيث قام البعض منهم بارتكاب جرائم بحق نشطاء وأطفال، بينها قيامهم بتفجير مبنى الكنيسة المعمدانية فى 15 سبتمبر عام 1963 فى بيرمنجهام فى ولاية ألاباما بالولايات المتحدة الأمريكية.
ويذكر أنه تم مؤخرا الإبلاغ عن زيادة حوادث العنف العنصري التى ترتكبها الحركات والجماعات المتطرفة بما فيها جماعات النازيين الجدد ذوى الرؤوس الحليقة " سكين هيد "والحركات اليمينية الأخؤى فى بعض البلاد ، لاسيما فى أوروبا الشرقية والجنوبية .وقد عبرت الجمعية العامة للأمم المتحدة فى الفقرة 6 من قرارها 143-66 عن جزعها من انتشار احزاب سياسية وحركات وجماعات متطرفة مختلفة بما فيها جماعتا النازيين الجدد وذوى الرؤوس الحليقة " سكين هيد " التى تناولها الفيلم.
أظهر الفيلم مدى قبح تلك المنظمات العنصرية وهمجيتها، كما ظهر فى مشهد اقتحام ديريك وجماعة "سكين هيد" لمتجر يملكه أحد الزنوج، حيث قاموا بقتل العاملين به بلا رحمة وحطموا كل مافيه ولم يرحموا فتاه زنجية تعمل بائعة فى المتجر فقاموا بتعذيبها بسكب علب العصير على وجهها وأنفها ثم قاموا باغتصابها حتى غابت عن الوعى فى منظر يندى له الجبين. كما ركز الفيلم على مدى بشاعة ممارسات هؤلاء العنصريين وشعورهم بالتفوق والهيمنة كما أظهره الممثل ادوارد نورتون فى مشهد عبقرى يجسد شعوره بالخيلاء والفخر بعد قتله لأحد الرجلين الزنجيين بتكسير أسنان أحدهما وتفجير رأسه على حافة الرصيف. وهو أيضا ما برره ايريك فى حديث لإحدى القنوات التليفزيونية فى الفيلم بأنه رد على واقعة احتراق والده اثناء قيامه بعمله كرجل اطفاء، واعتبره حادثا متعمدا.. ويتساءل فى صيغة تهكمية: ماذا ننتظر من دولة امتلأت بالمجرمين السود، البنيون، الصفر وغيرهم، كل شيئ يحدث فى البلد بسبب الجنس.. انها مشاكل لاتهم البيض"
وبالرغم من عدم ميلى لمشاهدة الأفلام التى تحوى مشاهد عنف، وهو ما حذر منه القائمون على الفيلم، الا أن المخرج استخدم تلك المشاهد فى وضعها الطبيعى حتى ينجح فى ايصال فكرته وارساله رسائل تحذيرية عن عودة مثل تلك التنظيمات التى سبق أن قضى على العديد منها، وهاهى تعلن عن نفسها وتبعث من جديد فتسير فى مسيرات فى شوارع أمريكا وقد شجعها على ذلك الرئيس ترامب الذى أعلن عن موقفه من المهاجرين فى أمريكا منذ توليه السلطة.
تحدث نقطة التحول عند بطل الفيلم ديريك عضو جماعة "سكين هيد" عندما يدخل السجن لتنفيذ عقوبته لقتله الزنجى بطريقة وحشية حين يلاحظ سوء ممارسات رفاقه فى تنظيم "سكين هيد" الذين تم القبض عليهم أيضا فيقارنهم برفيقه الزنجى، ذلك الشاب االودود حين نشأت بينهما علاقة صداقة أثناء عملهما معا فى مغسلة السجن حيث تدخل رفيقه الزنجى لحمايته من الاعتداء عليه من قبل السود. ثم يخرج ديريك ليغير مجرى حياته فيعلن انسحابه من تلك الجماعة العنصرية ويقنع اخاه الأصغر "دانى" أيضا بالابتعاد عنها.
وهنا ينوه الفيلم الى دور التعليم فى القضاء على العنصرية، حيث يطلب إيريك بعد خروجه من السجن من أخيه الأصغر "دانى" الإذعان لرأى أستاذه "سوينى" الزنجى فى المدرسة، وتغيير ورقته البحثية من "كفاحى لهتلر" إلى التاريخ الأمريكى المجهول "American history x" والتى تتضمن الحديث عن تجربة أخيه ديريك داخل السجن. ووفقا لكلمة "موتوما روتيرى "مقرر مجلس الأمم المتحدة لحقوق الانسان أن التعليم عنصر محورى فى منع ومكافحة العنصرية والتمييز وكراهية الأجانب والتعصب، فالتعليم يعمل على انشاء قيم ومعايير جديدة للوقاية من العنصرية ومكافحة الأشكال السائدة، ويرافقه بالضرورة توفير المناخ المناسب لانجاح الدور التعليمى. وهنا تأتى الرسالة التى يقدمها الفيلم حين كتب على بوسترات الفيلم عبارة " بعض الموروثات يجب أن تموت "some legasies must die"، فالعنصرية لايولد إنسان بها وانما هى صفة يكتسبها ذلك الشخص العنصرى وفقا للأفكار والمعتقدات والقناعات التى ترفع من قيمة مجموعة معينة أو فئة معينة على حساب الأخرى، وبناء على أمور مورثة ترتبط بقدرات الناس أو طباعهم أو عاداتهم وتتعلق بلون البشرة أو الثقافة أو مكان السكن أو اللغة أو العادات أو المعتقدات.
أشار الفيلم الى مدى التفرقة العنصرية فى العقوبات والاحكام على كل من البيض والسود حيث حكم على رفيق ديريك فى مغسلة السجن بالحبس ستة اعوام لسرقته جهازتليفزيون والتسبب فى احداث كدمة بقدم أحد رجال الشرطة عند سقوط الجهاز، عندما حاول الزنجى الفرار منه، بينما حكم على "ديريك" بحبس اربعة أشهرفقط كعقوبة تأديبية لقتله زنجيين واستخدام القوة المفرطة مع احدهما. وهو ما لا يستطيع أحد أنكاره على أرض الواقع من تعسف الشرطة الأمريكية مع الزنوج، وقد ذكر شقيق المواطن الزنجى جورج فلويد الذى قتل مؤخرا ان الطريقة التى عذب بها شقيقه لقتله والذى وثقته الكاميرات يعكسان كيفية معاملة الشرطة للسود فى الولايات المتحدة الأمريكية، كما سبق ان أطلق شرطى أبيض النار على ظهر الأمريكى الاسود رايتشيد بروكس وهو يحاول الفرار، وكما ذكر الاستاذ محمد المنشاوى المختص بالشئون الأمريكية فى مقال له نشرته جريدة الشروق مؤخرا أن الظلم المجتمعى يعبر عن نفسه بصورة أكثر وضوحا فى المجتمع الأمريكى من خلال نظام العدالة ونظام المحاكم هناك، حيث يتعرض السود أكثر من غيرهم لرقابة الشرطة فى الأماكن العامة كما أن احتمال الحكم عليهم بالاعدام يبلغ أربعة أضعاف احتمال الحكم على البيض فى الجرائم المشابهة، إضافة إلى أن نسبة السود بالسجون الأمريكية تبلغ 43% رغم ان نسبتهم من السكان بلغت فقط 13%.
ركز الفيلم على فكرة الخير والشر والمقابلة بينهما، معتمدا على المواقف الانسانية ونقطة التحول التى جعلت بطل الفيلم ديريك يغيرموقفه من كرهه للزنوج، وذلك عندما التقى برفيقه الزنجى فى مغسلة السجن الذى روى له كيف تفكره الملابس النظيفة التى يقومان بطيها بالمرأة ورائحة البيت المرتب النظيف الذى حرم منهم داخل السجن، وهنا تنزل الكلمات وشعور رفيقه الزنجى على ديريك كالسياط، متعمدا الهروب من الاجابة على أسئلة رفيقه عن سبب دخوله السجن.
وأخيرا، أليس من الغريب أن يتم حرمان فيلم مثل "American history X" من حصد جوائز أوسكار رغم قيمته الفنية العالية وما يحمله الفيلم من رسالة وهدف ورغم عبقرية مخرج الفيلم التى ظهرت فى الحبكة الدرامية والفلاش باك، وأيضا رغم تفوق الممثل "ادوارد نورتون" فى اتقان الشخصية وقدرته على التحول من الشر الى الخير.
-------------------------
رؤية بقلم: هدى مكاوى