27 - 06 - 2024

عصافير بايدن

عصافير بايدن

التصعيد المتسارع والمتزامن للخطاب السياسي لأمريكا وتحريك القوات على الأرض داخل أوربا لابد وأن يثير علامات استفهام كبرى حول دوافع هذا التسخين المفاجئ مع الدب الروسي بذريعة خطط لموسكو لغزو أوكرانيا.

والحقيقة أن هذه التحركات الامريكية التي لم تتوقف عند حد المباحثات الثنائية مع روسيا وإنما تخطت ذلك لحشر الاتحاد الأوربي والناتو في قلب هذه التحركات ووصلت لحد نقل الموضوع الأوكراني لمجلس الامن، تستحق وقفة لمحاولة سبر دوافعها.

واول ما يمكن الإشارة إليه أن العسكرية الامريكية بدأت تستشعر خطرا داهما على هيمنتها العسكرية المفترضة في أرجاء المعمورة ويعود ذلك الشعور بالخطر لعدة تغيرات طالت موازين القوى لها أبرزها: 

- نجاح روسيا في تطوير ترسانتها العسكرية وخاصة في مجال إطلاق واعتراض الصواريخ، ففضلا عن منظوماتها الدفاعية مثل (s400) الأقل كلفة والأكثر كفاءة من شبيهاتها الأمريكية، طورت روسيا أسلحتها الصاروخية لتنتج صواريخ فرط صوتية ومن بينها صواريخ متوسطة المدى تطال القارة الأوربية 

ورافق ذلك نجاحات روسية في مجال مبيعات السلاح وتدخلات فعالة في عدة ساحات تشهد توترات سواء بشكل مباشر مثلما هو الحال في سوريا أو بطرق غير مباشرة كما نرى في ليبيا وغرب أفريقيا.

- هناك أيضا في الشرق الاقصى التنين الصيني الذي بات عصيا على كل محاولات وإجراءات كبح جماح نموه الاقتصادي وزيادة على ذلك نجاح الصين في تعظيم ترسانتها العسكرية التقليدية والنووية حتى باتت في وضع مهيمن في بحر الصين الجنوبي إلى حد مطاردة القطع البحرية الأمريكية التي كانت تمرح هناك مطلقة السراح قبل عقد واحد.

ويلحق بذلك انفلات عيار العم كيم في بيونج يانج حيث أجرت كوريا الشمالية تجارب ناجحة لاطلاق صواريخ باليستية فرط صوتية ومن قطارات سكك حديدية متحركة.

وحتى على جبهة الأصدقاء شهد العقد الأخير تحررا أوربيا ملحوظا من إسار قيود الهيمنة الامريكية الأمر الذي زعزع مكانة الناتو وأصاب صلابة مواقفه في عدة قضايا.

بلغت الجرأة الأوربية مداها بإفصاح فرنسا والمانيا عن رغبتهما وخططهما لإنشاء قوة أوربية عسكرية موحدة، وهو ما يعني فعليا دق أكبر مسمار في نعش حلف الناتو من بعد مسمار صفقة تركيا لمنظومة اس ٤٠٠ الروسية وتضارب مواقف أعضاء الناتو في عدة ساحات بالشرق الأوسط وملف إيران النووي وغاز المتوسط...

وبشكل عام يمكن القول بأن واشنطن بدأت تستشعر خطرا شاملا على دعائم هيمنتها الامبريالية عسكريا واقتصاديا وكان عليها أن تبادر لتحرك أكثر فاعلية من محاولات ترامب لاجبار الخليج واوربا على الدفع نظير الدور الامريكي على امتداد البسيطة.

في هذا الإطار يمكن فهم التحركات الأمريكية التي تتذرع بقميص أوكرانيا بأنها تستهدف ضرب عدة عصافير بحجر كييف.

فمن ناحية تستعيد لحلف الناتو فاعليته وتكسبه أهمية أكبر تحت مظلة الصراع مع روسيا وذلك بتوسيع نطاقه شرقا وصولا لحديقة روسيا الخلفية بل ولتحت شباك موسكو، ولا جدال في أن ضم دولة مثل أوكرانيا ليس سوى كشف لحقيقة قائمة منذ عدة سنوات.

هذا التمدد سيقلل من الناحية الاستراتيجية من نجاعة الصواريخ الفرط صوتية المتوسطة المدى نظرا لوجود أسلحة تقليدية وربما نووية أمريكية على مرمى حجر من الحدود الروسية.

وفي ذات السياق فإن هذه التحركات ترغم الاتحاد الأوربي وبالتحديد فرنسا وألمانيا على التخلي ليس فقط عن التفكير في الانعتاق من الهيمنة الأمريكية بفكرة الجيش الأوربي بل وعن كافة مساعي احتواء الدب الروسي بتطوير صيغ التعاون الاقتصادي المشتركة ويمكن تلمس ذلك بجلاء في المطالبات الأمريكية المتكررة بوقف خط الغاز نورد 2 والذي يعد شريانا حيويا للالة الصناعية الألمانية للتزود بالغاز.

ولا يعدم الأمر كذلك ، "ذبح القطة" لأطراف إقليمية بترويعها وهي ترى "رأس الذئب الطائر" فترعوي وتتخلى عن خططها في التصرف وفقا لمصالحها الوطنية بمعزل عن المشيئة الأمريكية

كما لا يمكن إغفال التأثير المحتمل لتلك التحركات الامريكية على موازين القوى في الشرق الأقصى ولكن في مدى زمني أطول، إذا ليس من الحكمة ولا من تقاليد الاستراتيجية الأمريكية (منذ كيسنجر) خوض مواجهات مع كل الأعداء دفعة واحدة.

ببساطة أتمنى ألا تكون مخلة، فان التحركات الامريكية لا تستهدف روسيا وحسب في تلك المرحلة بل تستهدف وبنفس الدرجة تدجين التمرد الأوربي "فرنسا وألمانيا" ودفع الاتحاد الأوربي للارتماء مرغما في الحاضنة الأطلسية.

ولعله من نوافل القول أن نذكر بدور "حمالة الحطب" الذي تضطلع به بريطانيا في إشعال نيران الذريعة الأوكرانية بطريقة بالغة الفجاجة، سواء في التحذيرات الكلامية لروسيا أو في التحركات العسكرية المحدودة الكلفة فعليا والتافهة من حيث التأثير الاستراتيجي قياسا بالصخب الدعائي الذي يرافقها.
------------------------
بقلم: د. أحمد السيد الصاوي

مقالات اخرى للكاتب

عصافير بايدن





اعلان