19 - 10 - 2024

ما بعد 11-11، محاذير وفرص في الطريق للجمهورية الجديدة

ما بعد 11-11، محاذير وفرص في الطريق للجمهورية الجديدة

يُعد التنبؤ من المشكلات الأساسية في دراسة الظواهر الاجتماعية والسياسية. وتزداد صعوبة التنبؤ في حالة الظواهر الاجتماعية الأكثر تعقيداً، وخصوصاً تلك المتعلقة بسلوك المجتمعات والجماعات الكبيرة، التي تتسم تفاعلاتها بالديناميكية وتتداخل عوامل عديدة ومتشابكة في التأثير عليها. ومن أكثر الظواهر التي يصعب التنبؤ بها هي ظاهرة الانتفاضات الجماهيرية والواسعة والثورات، التي تعد من أكثر الظواهر الاجتماعية تعقيداً، وغالباً ما تكون تحركاتها عفوية وغير متوقعة، ويصعب تحديد الأسباب أو الدوافع المحركة لمثل هذه الانتفاضات، والثورات. يضاف إلى مشكلة التنبؤ مشكلة أخرى تتعلق بتفسير الظاهرة، التي تعد نقطة التميز الرئيسية للنظريات الاجتماعية، التي تقاس غالباً بقوتها التفسيرية.

إذا أخذنا هاتين المشكلتين في الاعتبار، فهناك خطورة في الخروج باستنتاجات متعجلة من الإحساس العام بالارتياح لعدم تحقق أي من السيناريوهات التي توقعت خروج مظاهرات احتجاجية في يوم 11 نوفمبر، أو الإفراط في وضع جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية المحظورة، بقوة القانون، في صدارة المشهد، أو الاعتقاد بأن امتناع الناس عن الخروج، إنما يعبر عن حالة من الرضا العام عن الأوضاع، أو تأييد لسياسات يتحمل المواطنون العاديون، بالأساس، عبئها. الأمر المؤكد في متابعة ما جرى خلال الأسبوعين الماضيين، هو الكفاءة التي أظهرتها أجهزة الأمن في احتواء الموقف ورفع درجة التأهب والاستعداد لأي تطور في وقت تستضيف فيه مصر حدثاً دولياً كبيراً، بل يعد من أكبر القمم العالمية في السنوات الأخيرة، هو قمة المناخ السابعة والعشرين الذي تنظمه الأمم المتحدة.

تهافت الإعلام على الجبهتين

أسوأ ما يمكن أن يصاب به الإعلام في أي مجتمع من المجتمعات هو أن يتحول عن رسالته الأساسية لتلبية واحدة من الاحتياجات والحقوق الأساسية للمواطن، وهي حقه في الاطلاع ومعرفة ما يحدث في العالم، ليصبح بوقاً دعائياً لهذه الجهة أو تلك. وهناك كثير من المؤشرات التي تدل على هذا التحول الخطير الذي يهدد مستقبل صناعة الإعلام في مصر، والتي جعلت من وسائل التواصل الاجتماعي، بما تنطوي عليه من مخاطر، أبرزها شيوع الأخبار المزيفة بقصد التلاعب بعقول المتابعين ونقل رسائل إعلامية تحريضية، تحول معها الإعلام إلى أداة للتحريض والحشد والتعبئة، وليس وسيلة للمعرفة التي باتت ضرورية لترشيد القرارات. ولعل المؤشر الرئيسي الدال على ذلك هو شيوع ظاهر المنابر الإعلامية التي يحتكرها عدد قليل من الإعلاميين الموثوقين، لبث رسالة متكررة لا تعبر عن الواقع ومتغيراته وتميل إلى أساليب التأثير النفسي في الجمهور، بدلاً من توعيته وتنويره.

لا يخفى على أحد أن القيود المتزايدة على حرية الإعلام وحرية الرأي والتعبير، قد تعلي من أهمية وسائل الإعلام البديلة في الخارج بما تحمله من أجندات سياسية مناوئة، في ظل تهميش متنامٍ للإعلام الوطني نتيجة لكثير من الضغوط والقيود. ولا يخفى على أحد من العاملين في الحقل الإعلامي أن هذا الوضع لا يخدم رسالة الإعلام ولا الهدف منه. والمتابع للمشهد الإعلامي الراهن يلاحظ بسهولة أننا أمام حالة من القصف الإعلامي المتبادل بين منصات وجبهات إعلامية في الداخل والخارج باستثناء عدد قليل من المنصات الإعلامية التي تكافح من أجل أداء رسالتها على الوجه الأكمل بالرغم من القيود الناجمة عن ضعف الموارد، وقلة الكوادر المؤهلة التي تعمل في ظل قيود تتعاظم. هذا الوضع على قدر كبير من الخطورة التي تستدعي مناقشة هادئة من قبل خبراء الإعلام وعلماء النفس. ذلك أن انخراط المنصات الإعلامية إلى أساليب هي أقرب إلى أساليب الحرب النفسية، يعرض المواطن العادي لحالة تعظم من الانفعالات النفسية وتقلل من فرص التفكير الهادئ والواعي. وقد تجعله ضحية سهلة لصناعة الأخبار والتقارير الزائفة على مواقع التواصل الاجتماعي، على النحو الذي يرصده الخبراء والدارسون المحنكون.

بات معلوماً أن الاهتمام بمنصات الإعلام المحترفة أحد السبل الرئيسية لتمكين القارئ والمتابع من التحقق من صحة ما ينشر على وسائل التواصل الاجتماعي. فمن اللافت أن أحد الرسائل المتكررة لتوعية جمهور الناخبين في إسرائيل خلال الانتخابات الأخيرة كانت تطالبهم بالتحقق من صحة ما يطالعونه على وسائل التواصل الاجتماعي بالرجوع إلى أصل الخبر أو التقرير على منصات الإعلام الرئيسية، ذلك أن كثيرا من التقارير المزيفة قد تنشر على صفحات مزيفة صممت لتوحي للقارئ أو المشاهد أنها منصة رئيسية. وإذا كان اللجوء إلى هذا الأسلوب يحدث في وقت الانتخابات فمن باب أولى أن تلجأ إليه بعض المنصات الإعلامية في أحداث أكثر أهمية مثل الانتقاضات والاحتجاجات، على نحو ما فعلت بعض المنصات المعارضة في الخارج بخصوص التقارير المصورة من أحداث سابقة والتي نشرتها وادعت أنها لأحداث جارية الآن، وكان لهذا الأمر تأثير سلبي وضار فيما يخص مصداقية هذه المنصات. لكن المشهد الإعلامي على الجانب الآخر لا يقل سذاجةً وتناقضاً وتلاعباً بالحقائق، وتدنياً ملحوظاً في مستوى الحرفية. ناهيك ما يصدر عن بعض مقدمي البرامج من آراء وتعليقات شخصية يصدرونها وكأنها أحكام قاطعة.

وفي ظل وضع كهذا، سيكون من العبث أن تعتمد مراكز صنع القرار على ما يرد في مثل هذه المنصات الإعلامية من تقارير للحصول على صورة دقيقة للأوضاع، وتقدير الموقف والتقييم، وسيكون من الضروري اللجوء إلى وسائل أخرى، محفوفة أيضا بالمخاطر، ذلك أن الإعلام المحترف له وظيفة أخرى حيوية في كل المجتمعات، تتمثل في أنه أداة مهمة لقياس الرأي العام والتعرف على توجهات الجمهور، وغالباً ما يكون بمثابة آلية للإنذار المبكر تساعد على تصويب القرارات واتخاذ السياسات الصحيحة، والتعامل مع السلبيات وأوجه القصور، والكشف عن العيوب غير المقصودة المصاحبة لتنفيذ القرارات. فالإعلام له دور رئيسي ومكمل للدور الذي تضطلع به الأجهزة الرقابية في الدولة، التي يصعب عليها الإحاطة بكل ما يجري من ممارسات للفساد في مجتمع يزداد تعقيداً. إن الوضع الذي أصبحت عليه الصحافة في مصر، وضع بالغ الخطورة ويستدعي وقفة لأنه من مصلحة أحد تحقق نبوءة "موت الصحافة" في بلد كان له السبق والريادة في هذه المهنة في مطلع القرن العشرين.

بين موت الصحافة وموت السياسة

العلاقة بين الصحافة والسياسة وثيقة، وكلاهما يلعب دورا محوريا في تحصين المجتمعات في مواجهة الضغوط الخارجية وتقليل مستويات العنف وحدوث التقلبات العنيفة. وغالباً ما تكون الإبادة السياسية أحد الاستراتيجيات الأساسية التي تلجأ إليها الدول في صراعها مع غيرها من دول أو مجتمعات. وقد وصف عالم الاجتماع الراحل باروخ كيمرلينج، حرب رئيس الوزراء الإسرائيلي، أرييل شارون، ضد الفلسطينيين بأنها المحاولة الثانية لتنفيذ "إبادة سياسية"، لإضعاف المجتمع الفلسطيني وحرمانه من قدراته التنظيمية في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي لأراضيه. من الصعب تصور أن تلجأ حكومة وطنية إلى تبني مثل هذه الاستراتيجية بشكل مقصود. لكن قد يحدث ذلك كنتيجة غير مقصودة لإدارة العلاقة بين الدولة والمجتمع، في بعض النظم التي يتسم بناء الدولة فيها بالمركزية الشديدة، واتباعها سياسات تؤدي إلى تهميش المجتمع، من أجل السيطرة على موارد وتوجيهها وفقا لرؤية السلطة وأولوياتها. وفي الأوقات التي يتعاظم فيها التناقض بين أولويات السلطة وأولويات المجتمع، لاسيما القطاعات الأكثر تنظيما في المجتمع، قد تلجأ السلطة لحرمان المجتمع من قدراته وخبراته التنظيمية على نحو يؤدي إلى موت السياسة نتيجة لتأميمها واحتكارها من قبل الدولة وأجهزتها. قد لا يتلفت خبراء السلطة غالباً إلى المخاطر المترتبة على هذه السياسات على المديين المتوسط والبعيد. وتكفي الإشارة إلى ما آلت إليه الأوضاع في دول مثل سوريا والعراق وليبيا واليمن، ومن قبلهم الصومال نتيجة السياسات التي لجأت إليها اليه السلطة في هذه الدول، والتي عمدت إلى إضعاف المجتمع لحساب الدولة، وغالباً لحساب الدكتاتور على حساب الدولة والمجتمع معاً.

إن التنمية السياسية باتت من الوظائف التنموية الأساسية التي تضطلع بها الدولة. وقد التفتت القيادة في مصر إلى هذا الأمر في الفترة الانتقالية واستحدثت منصبا للتنمية السياسية والتحول الديمقراطي، شغله الدكتور علي السلمي، الذي وضع مع آخرين وثيقة سعت إلى حل كثير من المشكلات التي تعاني منها البلاد والتي تعوق تحولها إلى الديمقراطية كأساس لبناء الدولة المدنية الحديثة. ومن المؤسف أن هذه الوثيقة لم تنل ما يكفي من الدراسة والاهتمام، وهو أمر ضروري لتفعيل المواد الدستورية المتعلقة بهذا الأمر، والتي تقطع الطريق على القوى التي تسعى لاستغلال المشكلات والأزمات الراهنة والمحتملة للمزايدة وممارسة الضغط لعرقلة مسيرة التنمية. واعتقد أن الفرصة لا تزال قائمة لإعادة النقاش حول ما ورد في هذه الوثيقة وتطويرها، من خلال المحور السياسي في مبادرة "الحوار الوطني". وتجدر الإشارة هنا إلى أن ضعف الظهير السياسي، أو غيابه لدى البعض يمثل إحدى الإشكاليات الكبرى التي يتعين التعامل معها ومعالجتها عبر اقتراحات محددة لإعادة بناء النظام السياسي للجمهورية الجديدة.
----------------------------------
بقلم: أشرف راضي

مقالات اخرى للكاتب

صباحيات| ليست ازدواجية للمعايير، بل تعددية أو غياب أحيانا