23 - 06 - 2024

موت الرأي العام

موت الرأي العام

(أرشيف المشهد)

  • 1-4-2015 | 14:15

كان المشهد عجيبا: اجتمع كبار مشركي مكة- أو زعماء المعارضة حسب التعليمات الجديدة- أمام بيت رسول الله - ص- ليلة الهجرة في انتظار خروجه ليقتلوه... كان بالهم طويلاً جداً! ويبدو أن أحدهم من ذوي الحس الأمني قد أنف الانتظار فقال: ولم لا نتسور عليه ونقتله ونخلص الليلة؟ اقترح القفز من فوق السور وليس خلع الباب! يعني قتل بدون إزعاج. لم يُعجب أبو جهل بالفكرة فرد: وتقول العرب إن أبا الحكم قد روّع بنات محمد في بيتهن؟ ما الذي منع رأس الكفر من الاقتحام؟ إنه الرأي العام الذي أوقفه، رغم أنه لم يكن زعيماً منتخبا يخشى الخسارة في الانتخابات، أو أن تقوم ضده المظاهرات، خشى الرأي العام ولم يخش الله!

إنه الرأي العام الذي يجبر الحاكم على العدل والمحكوم على الاعتدال، إنه الذي يجعلنا نحب الستر ونرتجيه، ونخشى الناس أكثر مما نخشى الله أحيانا. وعندما تسقط هيبة الرأي العام ينفتح باب الشر، وربما باب العهر أو "فعل الشر بجرأة."  كل الناس لديهم "إزاءَ المدح ضعفٌ لا يقاوم،" ولديهم خوفٌ من الرأي العام لا يقارن،  ويشتد احترام الرأي العام لدي الشخص العام، ولذا قالوا في الأمثال: البلد اللي مايعرفكش حد فيها أمشي وبرطع فيها. أما إن كنت تبرطع والناس تعرفك، فمعناه أن الرأي العام عليل، أو أنه قتيل. 

وليس أقتل من الرأي العام في بر مصر! شاهدت مذيعاً ذهب مع الفلول ثم عاد مع من عاد منهم يعلن ضيقه من المصريين الذين لا يستحمون، ورث الثياب يلبسون، ولا يتعطرون، أي إنهم في الحقيقة مقرفون! لقد فعل ما لم يكن ليقدر عليه أبو جهل! إنه لم يتجاهل الرأي العام بل استخف به. افترض أن الجمهور موجود لأجله، وليس أنه موجود من أجلهم، فطلب منهم الاستحمام. على أيامنا كان المذيع يقول: أعزائي المشاهدين، أما الآن فصار يناديهم: يا معفنين! الغريب أن الناس لم تأبه كثيراً، وربما  قال كلٌ في نفسه: إنه يتحدث بالأكيد عن الآخرين وليس عني. لم يكن هناك رأي عام يجعل هذا المنفوخ هواءً أن يعتذر أو يتراجع. لم يشعر رؤساؤه أنه يجب أن يعاقب أو على الأقل أن يعاتب. تجاهل الناس الإهانة وعادوا في اليوم التالي إلى أماكنهم في انتظار طلة المذيع النظيف!

وآخر يجلس أمام الكاميرا فاعلاً ما لا يجرؤ غريب القرية على فعله. تراه يرفع حذاءه في وجه الناس، أو يعلن غضبه منهم ويأسه من أن يفهموا فيقوم من مكانه متظاهراً بالرحيل عنهم، والناس جالسون، ضاحكون، وعلى المشاهدة مداومون! لم يعد الرأي العام في بلادي مرهوب الجانب، بل مكسور الجناح.

الاستهزاء بالرأي العام في بر مصر قديم، ولذا وصف القرآن فرعون بأنه "استخف قومه فأطاعوه." لقد أوردهم الهلاك فلم يزجروه. قال لهم "وما أريكم إلا ما أرى" أي إنه عماهم أو أستعماهم، فلا يرون إلا ما يراه. إنه الحكم المطلق الذي لا سلطة فيه تخيف سلطة الحاكم، ولذا يرى البعض أن وجود الكنيسة في أوروبا العصور الوسطى لم يكن شراً كله، لأنها كانت سلطة تناويء الملك وتتحداه، بل تخلعه مثلما أعلن البابا جرجوري السابع عن "الحق في خلع الإمبراطور لأن الذي أقام الكنيسة هو الله." حالت الكنيسة دون الحكم المطلق. أما في الحكم المطلق فالناس لا يسمعون، ولا يرون، ولا يتكلمون، لأن الحاكم ينوب عنهم في ذلك كله.

عندما هُزم أنطونيو وكليوباترة في موقعة أكتيوم احتفى "إعلامهما" بالنصر المبين (فعلاً مصر ولادة)، وعندما علمت كليوباترة بهذا الكذب غضبت، وصاغ شوقي قولها في بيته الرائع: "وغداً يعلمُ الحقيقة شعبي، ليس شيءٌ على الشعوب بسر." لكن الأيام لم تثبت صحة قولها كثيراً، فمازلنا لا نعرف كيف انقلب الناس على عمر مكرم نقيب الأشراف الذي قاد الثورة من قلب المصريين، وقبلوا أن ينفيه محمد علي دون أن يحركوا ساكنا. ما زلنا لا نعرف تلك البنود المخفية في معاهدة السلام التي ماتزال تحكمنا حتى الآن. ولا نعرف ماذا في إطار الاتفاق على بناء السد الأثيوبي، ولا نفهم كيف تسمح مصر بأن تكون رقبتها بيد غريب ملكته أمرها. إنه الخواء، حيث لا أحزاب، أو نقابات، أو أندية تدريس، أو حتى مؤسسة دينية تَرهَبُها السلطة، والنتيجة أن الرأي العام صار هو والهواء سواء، ليقال كل ما لم يكن من الممكن أن يقال، ويحدث ما لم يدر بخلد أحد أن يحدث، لدرجة جعلت واحداً من الآحاد يبشر الناس على الشاشة بأنه "جاء ليهتك عرض التراث!!" لم يكن يدري أنه بهذا القول ما هتك إلا الرأي العام نفسه.

عندما يموت الرأي العام، يعلو اللئام، ويندثر الكرام، ويصير الشاذ مألوفاً، والمعروف منكراً. ومازلنا نقول: لا يُصلحنا إلا الاستبداد! بربكم متى انصلحنا على يديه؟

مقالات اخرى للكاتب






اعلان