26 - 06 - 2024

كلمة تاريخية لهيكل .. العاشر من يونيو يوم من أمجاد الصحفيين

 كلمة تاريخية لهيكل .. العاشر من يونيو يوم من أمجاد الصحفيين

 كانت قد مرت عشرة أيام علي إصدار مجلس الشعب القانون ٩٣ لسنة ١٩٩٥ الذي اطلقنا عليه قانون اغتيال الصحافة وحماية الفساد والذي قرر مجلس النقابة رفضه ومعارضته ودعوة الجمعية العمومية لاجتماع طارئ يوم السبت الموافق العاشر من يونيو، وشهدت النقابة عديد من فعاليات التعبير عن الغضب، كما شهدت الصحف كتابات ترفض القانون و تؤيد موقف النقابة.

المفارقة انه في مثل هذا اليوم من ٢٣ عاما وكان يوم خميس ايضا تذكرت ان قلمًا كبيرًا ومهمًا لم يقل كلمته ولم يصدر عنه موقف خلال الايام الماضية فقلت لزميلي سكرتير عام النقابة في ذلك الوقت الاستاذ علي هاشم -متعه الله بالصحة- ونحن نرتب لاعمال الجمعية العمومية المقرر عقدها بعد يومين أين موقف الأستاذ هيكل و لماذا لا نخاطبه؟ ( لم تكن لي به علاقة مباشرة في هذا الوقت ) وفعلًا أخذت ورقة وكتبت عليها نصا :" الأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل.. جمعيتنا العمومية بعد غدا السبت .. مازلنا ننتظر كلمتك . " وقمت بالتوقيع عليها وأرسلتها علي " فاكس" مكتبه، ونسيت الموضوع، لانني كنت أدرك انه ليس من النوع الذي يتخذ موقفًا لا يقدره هو أو يقوم به بضغط من أحد، لكنه كان الحماس الذي كان يصيغ وقتها كل التفاصيل. 

وصباح اليوم التالي الجمعة استيقظت على رنين التليفون الأرضي ( لم يكن موجودًا غيره) وسمعت صوت النقابي النموذج والقدوة لجيلنا الاستاذ جلال عارف يطلب مني سرعة حضوري إلي مكتب الأستاذ هيكل. 

في البداية لم استوعب الأمر ولم يمهلني صوت الأستاذ جلال الخفيض و التلغرافي الفهم .

المهم ذهبت ودخلت إلي مكتبه و وجدت معه الأستاذ جلال وبعد الاستقبال قال:"طلبت بالأمس رسالتي  في موضوع القانون، وقطعت اجازتي وعدت من برقاش الي مكتبي في يوم عطلة، ولك ماطلبت واعطاني ورقتين بخط يده، وقال ارجو مراجعتهما قبل جمعهما .. وعندما هممت بالاعتراض، فكيف اراجع وراءه!، حسم الأمر بضرورة ذلك، فتصنعت قيامي بالمهمة حتي انتهيت فامر منير عساف مدير مكتبه وقتها جمعها علي الكمبيوتر، ثم قام بمراجعتها واعادها الي قائلا:" تفضل يا استاذ ماطلبت معك رسالتي وفيها رأيي".. وعندما حاولت ان اناقشه في الحضور غدا وإلقاء كلمته أبتسم إبتسامة واسعة وقال :" مهمتي إنتهت يا أستاذ وما بعد ذلك مهمتكم ".

وبعد مغادرة مكتبه برفقة الاستاذ جلال عارف الذي أوضح لي انه استدعاه مبكرًا جدا واطلعه على الرسالة التي جاءت اليه علي الفاكس بتوقيعي وسأله :"هل تعرفه ؟"وعندما أجابه طلب منه التواصل معي وحضوري.

ذهبت الي النقابة مساء اليوم نفسه لان مجلس النقابة كان مدعوًا للاجتماع للاعداد للجمعية العمومية التي دعا لها في اليوم التالي، وكنت أنوي عرض الأمر علي المجلس، إلا أن النقيب إبراهيم نافع بادرني عندما رآني قبيل الاجتماع:" كلمة الأستاذ هيكل معك وأنت الذي ستقوم بقراءتها في اجتماع الجمعية " .. طبعا فهمت انه تواصل معه اتباعا لتقاليد البروتوكول بين الكبار وبين قائد الأهرام التاريخي وبين من يظلون تلاميذه!.

بالفعل قمت بإلقاء الرسالة وسط زخم غير مسبوق وجمعية عمومية تاريخية غاضبة ومتوحدة علي رفض القانون ومؤكدة إستمرارها في الانعقاد حتي إسقاطه ومقررة ان تظل ذكري هذا اليوم عيدا سنويا للصحفيين.

مقاومة هذا القانون علي مدي عام وحتي سقوطه كان حدثا مهما، ومازال ملهما، وتفاصيله ويومياته من المهم ان لاتسقط أبدا من الذاكرة النقابية فهي صناعة وعي الجمعية العمومية التي لا تخذل كيانها النقابي ابدا في كل الاوقات الفاصلة.

واحترامًا لدور هذه الجمعية بكل مكوناتها التي صاغت هذا الحدث واهداء لجيل جديد تولي دوره في الحفاظ علي هذا الكيان وابلغ رسالته مؤخرا اضع في ذكري هذا اليوم الذي طلبتها منه رسالته التي أحدثت دويا في العاشر من يونيو ١٩٩٥:-                      

"تفضلتم بدعوتي لحضور الجمعية العمومية لنقابة الصحفيين، التي تنعقد غدا السبت 10 يونيو 1995 لمناقشة القانون رقم 93 لسنة 1995، ثم تفضلتم بطلب رأيي.

وبالنسبة لحضور الجمعية العمومية للنقابة التي أتشرف بعضويتها والانتساب إليها ـ فظني وبصراحة كاملة أن هذا الاجتماع "حشد قتال" تتصدى له الطلائع الشابة في المهنة، وأما نحن أبناء جيل سبق فيجوز لنا أن نتعلل بفكرة "كلاوزفيتز" الشهيرة التي رأى فيها "أن السياسة هي الحرب بوسيلة أخرى"، وفيما يتعلق بي فإن "الوسيلة الأخرى"، التي اعتمدتها من سنين طويلة هي "أن الكلمة يمكن أن تكون لها قوة الفعل" وهذا ما حاولته.

وإذا تكرم بعضكم وعاد إلى ما قلته في معرض الكتاب شهر يناير الأخير فقد يرى أنني أشرت إلى الفرصة المتاحة سنة 1995، وإلى المخاطر الكامنة في هذه السنة الفريدة والحافلة بمناسبات التغيير الطبيعي إذا نحن ملكنا قدرا من الخيال مع قدر من الشجاعة، ومن سوء الحظ أن الفرصة لترك رياح التغيير تهب على مصر رقيقة وآمنة جرى التفريط فيها، وبدلا من ذلك دخلنا بهمة ونشاط شديدين إلى حقل الألغام الذي تكمن فيه المخاطر.

وأما بالنسبة للقانون رقم 93 لسنة 1995 ـ فهذه بعض خواطري:

1- إن هذا القانون استفزني كما ستفزكم، واستفز الرأي العام وحملة الأقلام وكل القوى السياسية والنقابية والثقافية في هذا البلد.

2- إن الأسلوب الذي اتبع في تصميم هذا القانون وإعداده وإقراره هو في رأيي أسوأ من كل ما احتوته مواده من نصوص، ذلك أن روح القانون لا تقبل منطق الخلسة والانقضاض، وإنما تقبل منطق إطالة النظر والحوار ـ والقانون بالدرجة الأولى روح، وإذا نزعت الروح من أي حياة فما هو باقٍ بعدها لا يصلح لغير التراب!

إن روح القانون في رأيي أهم من كل نصوصه، حتى إن استقام قصد النصوص وحسنت مراميها.

وأشهد آسفا أن وقائع إعداد القانون كانت أقرب إلى أجواء ارتكاب جريمة منها إلى أجواء تشريع عقاب.

3- إن هذا القانون في ظني يعكس أزمة سلطة شاخت في مواقعها، وهي تشعر بأن الحوادث تتجاوزها، ثم إنه لا تستطيع في نفس الوقت أن ترى ضرورات التغيير، وهنا لا يكون الحل بمعاودة المراجعة والتقييم، ولكن بتشديد القيود وتحصين الحدود، وكأن حركة التفكير والحوار والتغيير تستحق أن توضع في قفص.

4- إن هذا القانون الذي استفزنا جميعا ليس حدثا وحده، وإنما حلقة في سلسلة من التصرفات والسياسات لا تساعد على تماسك البناء الاجتماعي، وانتظام الحركة  السياسية، وملاقاة عصور متغيرة.

إن النصوص المترهلة والصياغات المطاطة لا تعكس تربصا لإيذاء، بقدر ما تعكس لهفة التطويق وحصار مخاطر لا يعرف الخائفون منها أن أمرها هين، فما يسمى بالتجاوزات الصحفية ليس بحقائق الأمور غير بثور ظاهرة على سطح جسم يحتاج نظرا بالفكر، وفحصا بالنظر وكشفا بالعلم حتى نصل إلى سياسات للتنمية الاجتماعية والاستثمار في البشر، والوعي بالهوية والمصير يجعل هذا الشعب قادرا على الإمساك باللحظة التاريخية التي يتحول فيها العالم من قرن إلى قرن.

5- إن النصوص المترهلة سيئة السمعة والسيرة في القانون، والعبارات المطاطة كأنها بالونات منفوخة تشارف على الانفجار ـ تعكس بالدرجة الأولى حالة انفصام يصعب معها التقاء الأمل مع الإرادة فيما هو أكبر من حرية الصحافة وأخطر، ففي أجواء هذا الترهل المطاط أصبحنا حكومة وأهالي بلا عقد اجتماعي، وناطحات سحاب وعشوائيات بلا صلة أو تواصل، بل إن صعيد مصر وهو جزء منها ـ لكي لا ننسي ـ تحول في إعلامنا إلى عدد من الشهداء وعدد من القتلى وكلهم مضرج بدمه، وهذه قصة كل يوم في جزء عزيز من أرض مصر.

6- إن بينكم وبالقرب منكم خبراء قانون يستطيعون الإفتاء في مسألة النصوص ومخالفتها للدستور ومجافاتها لمطلب الديمقراطية، بل ومطالب المرحلة، ومن عجب أننا لا ندرك أن حرية الاختيار، وهي صيحة العصر الجديد حزمة كاملة غير قابلة للتقسيم، فليس معقولا أن يكون للفرد حق اختيار السلعة بمنطق حرية السوق ثم لا يكون له حق اختيار الفكرة بأحكام حرية العقل، وهذا التعسف في الانتقاء موجود في حياتنا، وأحيانا بقسوة، ففي القاهرة أسواق مفتوحة لكل شيء بلا قيود، لكنه مازال فيها مكتب للمدعي الاشتراكي!

7- لقد أحزنني تصريح منسوب للرئيس حسني مبارك منشور في كل الصحف أمس ـ الخميس ـ نسب فيه إليه قوله بأنه "إذا التزم الصحفيون بميثاق الشرف فإن القانون الجديد ينام من نفسه". ثم نسب إليه أيضا قوله "إنه يرحب بالرأي شرط أن يكون صادقا".

ومع كل الاحترام لمقام رئاسة الدولة فإن القوانين لا تعرف النوم وإنما تعرف السهر، وهي لا توضع لتنام بكرم أو بسحر المغناطيس، وإنما قيمة القوانين أن تعلو حركتها الذاتية فوق إرادات الأفراد.

يتصل بذلك أنني حقيقة لا أعرف ما هو معيار "صدق الرأي"، وهل هو اقتناع الكاتب بما كتب، أو حكم آخرين على قناعاته ونياته، فالخبر يمكن قياس صدقه باتساقه مع وقائع حدث، وأما الرأي فهو اعتبار ذاتي بحت.

هذا بعض ما خطر لي.

وبقي أن أقدم لك وللجميع شكري على اهتمامكم بحضوري وبرأيي.

ومع خالص الود أرجو أن تنقلوا للجمعية العمومية لنقابة الصحفيين خالص ولائي للمهنة وموفور احترامي لكل القيم السامية التي ترفع ألويتها.

محمد حسنين هيكل"
--------------------------------
بقلم: يحيى قلاش *
*نقيب الصحفيين الأسبق

مقالات اخرى للكاتب

 الغزالي حرب وثقافة الاعتذار





اعلان