20 - 06 - 2024

وقفة مع "حرب غزة 2023" وسيناريوهات للمستقبل

وقفة مع

لم استخدم في عنوان هذا المقال مسمى "طوفان الأقصى"، ذلك المسمى الذي اختارته حركة حماس لعملياتها الأخيرة التي استدعت ردا إسرائيليا أكثر وحشية في حربها لتدمير غزة وتحويلها إلى خرائب تصعب الحياة فيها إن لم تستحل، في عدوان جديد على المدنيين أطلقت عليها اسم "السيوف الحديدية"، وهو تعبير مستمد من التوراة في تأكيد لا يحتاج إلى أدلة على ما يمكن أن تحدثه الكراهية المدفوعة بمعتقداتنا الدينية من فظائع للبشرية.

 فلن استخدم هذا الاسم ولا ذاك المسمى، وأدعو الإعلاميين العرب، وفي العالم، لتحري الدقة وعدم الانسياق وراء المسميات التي يطلقها الطرفان على عملياتهم الانتقامية التي يدفع المدنيون الأبرياء ثمنها، لاستفزاز المشاعر الدينية لدى الجمهور. إن التركيز على هذه المسميات الدينية لحروب يشنها بشر محكومين بظروف العصر الذي يعيشون فيه أمر كارثي وجانب من أزمة الضمير الإنساني المعاصرة، خصوصا إذا ما اقترن هذا برؤى تجمع بين فكرة الخلاص وبين التدمير الكامل وإبادة العدو. ألم تكن هذه الرؤية هي التي سيطرت على تفكير النازي أدولف هتلر في طرحه لمفهوم "الحل النهائي". لذلك استخدم "حرب غزة 2023"، لتأكيد الطابع الزمني البشري لهذه الجولة من جولات الصراع المرير الممتد لأكثر من 70 عاما

أرجو أن تكون هذه المواجهة الراهنة كاشفة للتردي الذي وصلنا إليه في صراعنا الممتد لأكثر من 70 عاما والذي رسمت حدود مخططات استعمارية لا تعبأ بشعوب المنطقة ولا أمنها ولا رفاهيتها واستقرارها. أرجو أن تكون أيضاً مناسبة للتحرر من كثير من الأوهام والشعارات التي لم تغير شيئا ولم تؤد إلى أي تقدم بقدر ما تسهم في تراكم الكراهية والوهم وانغلاق العقل وانسداد مسالك التفكير. 

وأرجو أن تكون هذه الجولة الأكثر وحشية مقارنة بجولات سابقة تذكرنا بالفظائع التي ارتكبتها العصابات الصهيونية في حرب عام 1948 من أجل تهجير الفلسطينيين من بلداتهم ومدنهم في عمليات للترحيل القسري للسكان عبر جرائم ضد الإنسانية تميز بين البشر على أسس دينية أو قومية لتؤسس لنظام للفصل العنصري شبيه بنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا جرى تدشينه عبر قوانين كريهة مثل قانون العودة الإسرائيلي الذي يمنح اليهود جنسية الدولة ومكانا في الأرض على حساب سكانها الفلسطينيين. 

استيقظ ضمير العالم بعدما اكتشف هول الفظائع التي ارتكبتها إسرائيل بحق سكان غزة ردا على ما يتردد عن فظائع ارتكبها مقاتلو حماس، على نحو يؤكد من جديد صعوبة تنفيذ حروب الإبادة التي ارتكبت في عصور سابقة وإن شجعها الساسة في الولايات المتحدة أملا في حسم صراع لا ينتهي وبعد وضع جيش مصر حداً لأحلام تهجير فلسطيني غزة إلى سيناء تمهيداً لإقامة دولة جديدة للفلسطينيين كي يتسنى للمستوطنين والمتطرفين إقامة دولتهم على كامل أرض فلسطين ومباشرة مشروعهم التوسعي عبر اتفاقيات للتطبيع على حساب الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وفق صيغة السلام مقابل السلام التي جرى تمريرها أو فرضها في فترة حكم الجمهوري دونالد ترامب للولايات المتحدة والتي تسعى إدارة جو بايدن الديمقراطية لاستكمالها بتطبيع العلاقات السعودية الإسرائيلية والمضي قدما في مشروع الممر الهندي الذي اقتراح في قمة العشرين في نيودلهي. 

رغم الفظائع التي ارتكبت في هذه الجولة من الصراع إلا أنها فرضت معادلة جديدة على جميع الساحات في المنطقة، لتفتح الباب أمام سيناريوهات عدة لمسار الصراع وتطوراته المحتملة على المستوى القريب والمتوسط، انتظارا لحل تاريخي لما عرف اصطلاحا بالمشكلة الفلسطينية. 

لكن يتعين قبل الشروع في تفصيل تلك السيناريوهات تحليل ما قد تسفر عن هذه الجولة من نتائج ستحكم تلك السيناريوهات. 

أولى هذه النتائج يتعلق بالتطور على مستوى التسليح وعلى مستوى التخطيط العسكري الذي حققته حركة حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية الأخرى وتبلور ما يعرف بمحور المقاومة الذي ترعاه إيران في سياق صراعها مع إسرائيل والولايات المتحدة، رغم كل المواجهات السابقة بينها وبين القوات الإسرائيلية في غزة وفي الضفة الغربية. 

ثاني هذه النتائج التي ترتبت على الهجوم المفاجئ الذي شنته المقاومة الفلسطينية انطلاقا من غزة، هي انكشاف اليمين الذي يحكم إسرائيل منذ عقود والذي بلغ ذروته مع تشكيل حكومة مؤلفة من أحزاب دينية متطرفة ومستوطنين يحلمون بفرض سيطرة يهودية على كامل أرض فلسطين ويرفضون صيغة التعايش التي تبلورت بين اليهود والفلسطينيين في حدود 1948. 

وثالث هذه النتائج يتعلق بمواقف الشعوب والحكومات في دول المواجهة والدول العربية بشكل عام وعلى المستوى العالمي، التي قد تدفع في مسارات جديدة تضع حدودا للمشروع الصهيوني. ورابع هذه النتائج يتعلق بتأثير هذا على الساحة السياسية الإسرائيلية، والتي بدأت بشائرها بتعديل تركيبة الائتلاف الحاكم لصالح صيغة يمينية أكثر اعتدالا رغم تشددها في مواجهة الشعب الفلسطيني وتهميش أدوار الأحزاب المتطرفة. وهذه النتائج جميعا تدعو إلى إعادة تفكير في الصراع وأساليب إدارته، في ظل تعثر إمكانيات التوصل إلى هدنة أو تسوية سلمية تحقق سلاماً عادلاً وفق صيغة حل الدولتين. 

هدف مستحيل وآخر مراوغ

يمكن استنتاج أن إسرائيل تسعى من وراء حملتها الإجرامية على المدنيين في قطاع غزة لتحقيق هدف مستحيل وآخر مراوغ. 

الهدف المستحيل الذي تشير إليه تصريحات بعض المسؤولين والمحللين الإسرائيليين ونمط العمليات الحربية التي يشنها سلاح الجو الإسرائيلي وهو ترحيل جماعي قسري لسكان غزة بدفعهم نحو الحدود مع مصر. لقد وضعت مصر حدا لهذا الهدف من خلال تصريحين للرئيس عبد الفتاح السيسي، أكد من خلالهما أن مصر لا يمكن أن تسمح بتصفية القضية الفلسطينية، وأن سيناء للمصريين ولا يمكن السماح أحد غير المصريين باستيطانها. وأعطى الجيش المصري رسالة واضحة بحشد قوات على الحدود والاستعداد لكل السيناريوهات في إشارة واضحة بأن فرض مثل هذا الحل لا يمكن فرضه إلا من خلال حرب تنسف معادلة السلام وتعيد مصر ومن ورائها دول عربية كثيرة إلى دائرة الصراع مع إسرائيل من جديد. لقد أكدت التحركات المصرية وصمود الفلسطينيين على أرضهم رغم العدوان الشرس الذي حول مناطق كثيرة في القطاع إلى خرائب عبر هجمات استهدفت المباني والبنية التحتية وفي مواجهة حصار لجأت فيه إسرائيل لأساليب بدائية وهمجية تتنافي مع قواعد القانون الإنساني الدولي واتفاقيات جنيف الأربع وبروتوكولاتها، وفي مقدمتها اتفاقية جنيف المتعلقة بحماية المدنيين وقت الحرب والتي يشكل انتهاكها جرائم حرب لا تسقط بالتقادم. 

الهدف المراوغ هو الهدف الذي لا تزال إسرائيل تعلنه، وهو القضاء على حركة حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية الأخرى. وهو هدف مراوغ ذلك أن جولات المواجهات المسلحة السابقة التي قلصت قدرا كبيرا من قدرات فصائل المقاومة الفلسطينية العسكرية لم تفلح في تحقيق هذا الهدف فعقب كل جولة تخرج المقاومة أكثر تسليحا وشراسة وتمرسا على الحرب، الأمر الذي يؤدي إلى تعاظم الخسائر التي تتكبدها إسرائيل مع توسع المقاومة في الساحة الفلسطينية ومع تبلور محور المقاومة رغم الضربات المتكررة التي توجهها إسرائيل من خلال عدوانها على سوريا. لا يمكن لإسرائيل أن تنجح في تحقيق هذا الهدف بدون هجوم بري واسع النطاق لقطاع غزة وهو هجوم ستتكبد فيه خسائر بشرية ومادية باهظة ولن تتمكن من تحقيق حتى لو أعادت احتلال قطاع غزة. 

فإسرائيل رغم احتلالها للضفة الغربية وتطويقها بالمستوطنات لم تنجح في منع تطور المقاومة الفلسطينية هناك من حيث التسليح والتنظيم والقدرة على شن هجمات تستهدف قوات الاحتلال الإسرائيلي هناك. تدرك إسرائيل والعالم كله أن هذه المقاومة ستستمر وتنمو طالما بقي احتلالها للضفة الغربية وطالما استمر حصارها لقطاع غزة، وطالما ظلت على عنادها في ممانعتها للتوصل إلى تسوية عادلة مع الفلسطينيين ومع سوريا ولبنان من خلال مفاوضات تفضي إلى حل الدولتين. وستفشل مساعي إسرائيل في اختزال صراعها مع الفلسطينيين على أنه صراع مع حركتي حماس والجهاد الإسلامي، لأن الحقيقة أنها في مواجهة شعب كامل يقاوم الاحتلال. 

سيناريوهات الصراع والتسوية المرتقبة

على الرغم من أن المواجهة الأخيرة بين المقاومة الفلسطينية وإسرائيل والهجوم الإسرائيلي الشرس على غزة فتحت الباب لاحتمال اتساع رقعة الصراع على الجبهتين السورية واللبنانية وفي الضفة الغربية، وربما على الجبهة المصرية، وتوسعها لتشمل إيران ودول أخرى، الأمر الذي يفتح الباب في ظل الوضع الراهن إلى تدهور الوضع ليصل إلى حد مواجهة عالمية شاملة، إلا أن التطورات في اليومين السابقين تؤكد أن القوى العالمية والإقليمية ليست مستعدة لمثل هذه المواجهة، كما أن تزايد الضغوط التي يفرضها الرأي العام العالمي مع تنامي المظاهرات الداعمة للفلسطينيين والرافضة للعدوان الإسرائيلي على المدنيين في غزة ستتزيد الضغوط على إسرائيل من أجل التوصل إلى هدنة والتوصل إلى اتفاق ينهي الحرب الدائرة عبر وساطة مصرية أو مصرية-قطرية مع مشاركة دول أخرى. لكن لن يتحقق هذا السيناريو إلا بعد تأكد إسرائيل من استحالة القضاء على حماس والمقاومة الفلسطينية. 

وتشير التطورات الراهنة إلى أننا أمام ثلاث سيناريوهات محتملة، على المدى القصير:

السيناريو الأول، استمرار المواجهات العسكرية لأسابيع وربما لشهور، وقد يغري الوضع الراهن الذي تحظى فيه إسرائيل بدعم أمريكي مطلق وإدانة عالمية لحماس مع التغاضي عن جرائم إسرائيل على أمل أن تتمكن من القضاء على حركة حماس، لكن هذا السيناريو ينطوي على مخاطرة كبرى مع تأجج الغضب في العواصم العربية الأمر الذي قد يكلف إسرائيل اتفاقيات تطبيع ثمينة مع دول عربية لها وزنها على الصعيد الإقليمي وكذلك على الصعيد العالمي. 

السيناريو الثاني، التوصل إلى هدنة عبر وساطات إقليمية ودولية، تبقي على القدرات العسكرية لفصائل المقاومة في غزة والضفة وإذعان إسرائيل لذلك الحل وتعزيز قدراتها الاستخبارية التي أصيب بضرر بالغ جراء المواجهة الأخيرة لمنع تكرارها، لكن هذه الهدنة قد تنهار مرة أخرى لندخل في جولة جديدة من جولات المواجهات المسلحة، خصوصا إذا زادت إسرائيل من حصارها لقطاع غزة وتكثيف عملياتها العسكرية في الضفة الغربية، وقد يتطلب هذا الحل نشر قوات دولية للفصل بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني مع ضمانات يقدمها الوسطاء الإقليميون والدوليون، مقابل إعادة إعمار قطاع غزة.

السيناريو الثالث، سيناريو استئناف مفاوضات السلام مع السلطة الفلسطينية، ويتطلب هذا السيناريو تشكيل حكومة ائتلافية جديدة في إسرائيل للشروع في الاستجابة للضغوط الأمريكية من أجل الاستجابة للشروط السعودية لتطبيع العلاقات مع إسرائيل. وقد يساعد هذا السيناريو إسرائيل على إصلاح علاقاتها مع الدول العربية التي توجد علاقات دبلوماسية معها، والتي تضررت نتيجة للمواجهة الأخيرة. ومن الصعب التفكير في هذا السيناريو قبل انتهاء العمليات الحربية في غزة، كذلك ليس معروفا بعد حدود التنازلات التي ستقدمها إسرائيل عن موقفها الحالي من أجل تشجيع السلطة الفلسطينية على المضي قدما في هذا المسار. 

في كل الأحوال، فإن الأمر المؤكد هو أن الجولة الأخيرة من المواجهات المسلحة علامة فارقة في الصراع مع إسرائيل، فقد كشفت الحدود التي يمكن أن تصلها القوة المتغطرسة، وكشفت عن معادلة جديدة في ميزان القوة في هذا النمط من الحروب اللامتكافئة.
--------------------------
بقلم: أشرف راضي

مقالات اخرى للكاتب

حرب غزة 2023.. مستقبل غزة أم مستقبل فلسطين؟





اعلان