20 - 06 - 2024

حتى لو تم تدمير غزة لن تنتهي قضية فلسطين

حتى لو تم تدمير غزة لن تنتهي قضية فلسطين

العالم سينتفض ضد جرائم إسرائيل وجنون ساستها

الجولة الراهنة من جولات الصراع مع إسرائيل، ليست كغيرها من جولات سابقة، فهذه الجولة على الرغم من كل الفظائع والجرائم التي ترتكب ضد المدنيين، أظهرت للعالم أن معادلة الصراع التاريخي الممتد قد تغيرت، وأصبحت الحرب الدائرة الآن في غزة لحظة فارقة أخرى في تاريخ هذا الصراع. لم يدرك قادة إسرائيل بسبب غطرسة القوة ورهاناتهم الخاطئة على الدعم الأمريكي المطلق الذي أعلنه جو بايدن، رئيس الولايات المتحدة، وعلى تواطؤ بعض الحكام العرب وصمتهم، أن هناك حدوداً للقوة، وأن لا أحد في العالم يستطيع أن يحتوي غضب الشعوب العربية وشعوب العالم. 

لقد أسقطت المواجهات الحالية الكثير من الأوهام وأحلام التوسع والهيمنة الإقليمية، ووضعت حداً لمشاريع الشرق الأوسط الجديد الذي لطالما حلم به قادة إسرائيل، وسيتعلم ساسة إسرائيل بعد أن تسكت المدافع كيف يمارسون ضبط النفس، وكيف يكبحون أنفسهم ولا يطلقون العنان لجرائمهم الوحشية. 

وتغير معادلة الصراع لم يبدأ بالعملية التي نفذها مقاتلو حماس في البلدات والمستوطنات المحيطة بقطاع غزة فجر السبت السابع من أكتوبر، وإنما بدأ مع تغير البيئة الداخلية للصراع مع تشكيل الحكومة الأكثر تطرفاً في تاريخ إسرائيل بزعامة بنيامين نتنياهو، في 11 نوفمبر 2022، والتي ضمت أحزابا دينية متطرفة ومستوطنين. لقد ارتكبت هذه الحكومة سلسلة من الأخطاء التي مهدت الأرض للمشهد الراهن أمام أعيننا، بسبب ساسة فقدوا صوابهم وأطلقوا العنان لغريزة القتل والتدمير الممنهج، يشجعهم على ذلك خطاب بايدن الذي وعدهم بدعم مطلق من أجل رد حاسم، ولم يتعلموا بعد أنه لا مجال للحسم في مثل هذه الصراعات الممتدة. 

غزة في مواجهة التدمير والترحيل

إن تحليل الهجمات العسكرية التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة يشير إلى أنها تسعى إلى تحقيق هدف مزدوج عنوانه التدمير والترحيل.. فمن ناحية تسعى إسرائيل من خلال الضربات العسكرية التي لا تهدأ للقطاع ليس فقط لتدمير القدرات العسكرية لحماس وفصائل المقاومة وإنما أيضاً إلى تدمير الحياة في القطاع، إذ أوضح كبار المسؤولين في حكومة نتنياهو أنهم سيحولون غزة إلى خرائب تصعب الحياة فيها ووصلوا في هذا المسعى إلى حد الانتهاك الصارخ والواضح لاتفاقيات جنيف بشأن حماية المدنيين أثناء النزاعات المسلحة وارتكاب جرائم حرب لا تسقط بالتقادم من خلال فرض حصار شامل وقطع المياه والكهرباء والاتصالات عن السكان المدنيين في غزة وتجويعهم. 

والهدف الثاني الذي تسعى إسرائيل إلى تحقيقه في هذه المواجهة بعد أن فشلت في تحقيقه في حرب عام 2012 وفي حرب عام 2014 القصيرة، وهو هو محاولة ترحيل سكان غزة قسرا إلى سيناء المصرية على أمل أن يغير ذلك من معادلة الصراع ويفتح الباب لفرض صيغة للحل معروفة باسم "الدولة الجديدة" الذي وضع ملامحه جاريد كوشنر، صهر الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، توهماً منهم أن هذا سينهي الصراع ويفتح المجال أمام إسرائيل لأن تكون القائد الإقليمي للمنطقة بدعم أمريكي وخليجي، في إطار الترتيبات الأمريكية الجديدة للمنطقة، التي تقوم على تخفيف عبء الالتزامات الأمريكية بالدفاع عن المنطقة لتتفرغ واشنطن لأعباء المواجهة مع القوة الصينية الصاعدة، وإعادة ترتيب الأوضاع في المنطقة بما يتماشى مع الاستراتيجية الأمريكية على النحو الذي تجلى من خلال طرح مشروع الممر الاقتصادي أثناء اجتماع قمة العشرين في نيودلهي. لكن الأحداث التي نشهدها الآن تكشف أن هناك حدوداً للخطط تفرضها معادلات لا تستند فقط لموازين القوة وإنما تستند بالأساس إلى إرادة الشعوب. 

ووصلت المواجهات المسلحة إلى مع وأهلها للحظة فارقة جسدها مشهدان ليل الثلاثاء (17 أكتوبر): المشهد الأول هو تدمير مستشفى ودير المعمدانية في مدينة غزة في قصف صاروخي تتحمل القيادات الإسرائيلية السياسية والعسكرية المسؤولية المباشرة والأولى عنه مهما تضاربت الروايات بشأنه، وهو ما أدركته الجماهير والنخب العربية بحس سليم. المشهد الثاني، الرد الشعبي على العدوان والجرائم الإسرائيلية على المدنيين في غزة الذي تمثل في اقتحام مقر سفارة إسرائيل في عَمّان عاصمة الأردن وإحراقها، وهو مشهد يؤكد بما لا يترك مجالا للشك بأن قادة إسرائيل بتدميرهم لقطاع غزة إنما يدمرون أيضاً جسورا امتدت مع عواصم عربية ويحرقون جسورا كانت جهود دبلوماسية تبذل من أجل مدها مع عواصم عربية أخرى. 

لقد أثبت قادة إسرائيل اليمنيون صحة ما توقعه عالم السياسة السويسري إيمانويل ولرشتين الذي كتب في عام 2003 قبل العدوان الأمريكي على العراق محذراً من أن الساسة اليمينيين في واشنطن بقيادة جورج بوش الابن إنما يقوضون أسس القوة الأمريكية التي استهل مقاله باستعراضها. وها هم قادة إسرائيل يقوضون الأسس التي يقوم عليها مشروعهم من خلال سياسات فجرت الأوضاع داخل الكيان، ومضت خطوات على طريق هزيمة المشروع عبر إدخال تعديلات تضمن سيطرتهم على السياسة الإسرائيلية مما أحدث تصدعات فشلت الحرب الراهنة في رأب معظمها.

الجولة الراهنة من المواجهات المسلحة هي الأصعب والأكثر دموية بالنسبة لإسرائيل لاعتبارات جيوسياسية تتصل بتغير البيئة الداخلية والبيئة الإقليمية للصراع لعدة اعتبارات من بينها تكثيف الصراع في مساحة محدودة من الأرض، هي قطاع غزة الذي تبلغ مساحته 365 كيلومتراً مربعاً والذي يُعد من أكثر مناطق العالم اكتظاظا بالسكان إذ يقطنه أكثر من مليوني نسمة، ومن بينها أيضا تشكل محور للمقاومة المسلحة لإسرائيل من عدة فصائل تحظى بدعم إقليمي من قبل إيران ودول أخرى في المنطقة، الأمر الذي ينعكس من خلال تطور وتعقد أساليب القتال والاشتباك والتخطيط العسكري، ولعل أهم ما يجمع هذه الفصائل هو هدف القضاء على إسرائيل، ورفض أي تسوية سياسية للصراع، وإيمانها الشديد بأن تحقيق هذا الهدف بات وشيكا على الرغم من التفاوت الشديد في ميزان القوة بين الطرفين. 

وبغض النظر عما إذا كنا أمام نبوءة تتوفر لها مقومات التحقق أم لا، فإن استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية والسياسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين واستمرار الحصار الذي تفرضه على قطاع غزة، يوفر لهذه الفصائل غطاء شرعيا وقانونيا، بغض النظر عن تصنيف إسرائيل وحلفائها لها كتنظيمات "إرهابية". 

إن إسرائيل تدفع اليوم ثمن سياسات الغطرسة وإصرارها على مواصلة سياسة الإبادة السياسية للفلسطينيين وتقويض السلطة الفلسطينية وتقويض اتفاقيات أوسلو التي شكلت أساسا قانونيا لهذه السلطة، والأخطر أن هذه السياسات ترسخ شرعية محور المقاومة وتزعزع شرعية القوى الفلسطينية الأكثر اعتدالا. ولم يدرك ساسة إسرائيل، بعد، خطورة استمرار هذه الحرب الدائرة في غزة ولم يقتنعوا، بعد، بأن أحدا لن يسمح لهم بتنفيذ خطتهم لترحيل الفلسطينيين قسراً إلى سيناء المصرية ظنا منهم أن هذا الترحيل يمثل الحل الأمثل لمشكلة غزة التي لطالما أرقتهم.

غزة كمعضلة أمنية 

يُعد قطاع غزة حالة فريدة في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، ومن يتابع الخطاب السياسي الإسرائيلي بخصوص القطاع، سواء قبل انسحاب إسرائيل بقرار منفرد في عام 2005 أو بعد الانسحاب، يدرك مدى الاضطراب في التفكير الإسرائيلي بشأن غزة وهو اضطراب ناجم عن تحكيم الاعتبارات الأيديولوجية لا الحسابات الاستراتيجية في الصراع، واستمر هذا الاضطراب من خلال سياسة الحصار الذي فرضته إسرائيل على القطاع لتحوله إلى سجن كبير مفتوح لأكثر من مليوني فلسطيني. 

وقد وضعت هذه السياسة قطاع غزة في وضع فريد، وزاد من فرادته ما ترتب على الانتخابات التشريعية الفلسطينية في عام 2005، والتي فازت فيها حركة حماس ثم انقلابها على السلطة الفلسطينية وانفرادها بحكم القطاع الأمر الذي استدعى فرض حصار إسرائيلي والتحكم في المعابر بعدما طرد مسلحو حماس مراقبي الاتحاد الأوروبي المتواجدين بحكم اتفاقية أوسلو. وقد تسبب هذا الوضع للقطاع الذي لا تتواجد فيه قوات إسرائيلية ولا يخضع لسيطرة السلطة الفلسطينية إلى تحويله إلى قاعدة رئيسية للمقاومة الفلسطينية، وأدى كذلك إلى وضع كارثي بالنسبة للسكان المدنيين، وهو يجري توثيقه من خلال التقارير الدورية لمكتب تنسيق الشؤون الإنسانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة التابع للأمم المتحدة، والتي تعد سجلا آخر موثقاً للانتهاكات الإسرائيلية للمواثيق والقوانين الدولية.

تمثل غزة معضلة أمنية لإسرائيل ولأي قوة أجنبية قد تحكم القطاع. ومما يفاقم هذه المعضلة وجود حركات للمقاومة الفلسطينية المسلحة لا تقف عند حدود وتعلن أن هدفها هو تحرير أرض فلسطين كاملة والقضاء على دولة إسرائيل، بل تصبغ صراعها مع إسرائيل بصبغة دينية مضادة للصبغة الدينية للمشروع الصهيوني، الأمر الذي ينذر بأننا في مواجهة صراع صفري، لا مجال فيه للتسويات والحلول الوسط، قد يكون هناك مجال لهدنة طويلة الأمد اقترحتها حركة حماس، لكن إسرائيل ترفض شروطها، وقد يكون هناك مجال كذلك لتفاهمات قصيرة الأجل يرتبها وسطاء إقليميون في مقدمتهم مصر، تتخلل المواجهات المسلحة التي تتكرر بوتيرة متزايدة. 

لقد كانت غزة كالشوكة في جنب إسرائيل، وهي لا تحظى بالأهمية الدينية التي تحظى بها الضفة الغربية والقدس حيث وجدت ثلاث ممالك حسب السردية اليهودية. ومن ثم، كان حلم الساسة الإسرائيليين أن تُمحى غزة من على الخريطة، وهو حلم صعب المنال رغم التدمير الشامل الذي تلحقه بالقطاع. 

تتحمل إسرائيل المسؤولية المباشرة عن الوضع الراهن في غزة، ذلك أن الانسحاب الإسرائيلي غير المرتب من قطاع غزة، تسبب في فوضى بسبب فراغ السلطة، لم يعمل في صالح إسرائيل كما كانت تأمل. واكتشف قادة إسرائيل أن قرار رئيس الوزراء الليكودي الراحل، أرييل شارون، بالانسحاب من قطاع غزة من طرف واحد، كان خطأ أدى إلى هذا النمط من الصراع بين جماعات مسلحة، لا تتواني عن اغتنام أي فرصة لاستدراج القوات الإسرائيلية لمواجهات تسعى من خلالها لحرب استنزاف ممتدة، وتصبح أكثر تمرسا في القتال.

الآن، وفي ظل هذه المواجهة الشرسة، يتعين على قادة إسرائيل مراجعة مواقفهم وسياساتهم بعد أن أصبحوا في مواجهة لحظة من اللحظات النادرة للحقائق في هذا الصراع، عليهم أن يدركوا أن حل الدولة الجديدة الذي طرحه مضارب عقاري لن يحقق أي سلام وإنما سيقضي على ما تبقى من أرصدة السلام الذي تحقق عبر سلسلة من الحروب والمعارك الدبلوماسية الشرسة على مدى عقود. وعليهم أن ينصتوا لآراء سياسيين من اليسار ودعاة السلام الذي أفاقوا مبكراً من أوهام الصهيونية، ورأوا أنه لا بد من التوصل إلى تسويات عادلة تحقق للفلسطينيين بعضا من تطلعاتهم المشروعة وأن تترك الجوانب الأخرى، أو الجدران الأخرى غير المرئية في هذا الصراع المرير، للعمليات التي ستطلقها مثل هذه التسويات السلمية. 

عليهم أن يستذكروا كلمات الرئيس المصري الراحل أنور السادات في خطابه التاريخي في الكنيست في نوفمبر 1977 بشأن القضية الفلسطينية. عليهم أن يقرأوا بدقة الرسائل التي تضمنها مقال مفبرك عليه توقيع الكاتب الصهيوني أري شبيت في جريدة هآرتس، جرى تداوله عبر كثير من المواقع في الأيام القليلة الماضية، بعنوان "إسرائيل تلفظ أنفاسها الأخيرة" قال فيه "يبدو أننا نواجه أصعب شعب عرفه التاريخ، ولا حل معهم سوى الاعتراف بحقوقهم وإنهاء الاحتلال"، منبها إلى أن هذه الفرصة ربما ضيعها ساسة إسرائيل وأن الصراع مع الفلسطينيين وصل إلى نقطة اللاعودة. وأضاف أنه "لم يعد بإمكان إسرائيل إنهاء الاحتلال ووقف الاستيطان وتحقيق السلام، ولم يعد بالإمكان إعادة إصلاح الصهيونية وإنقاذ الديمقراطية وتقسيم الناس في هذه الدولة". 

ورغم أن هذا المقال المنسوب لشبيط مفبرك إلا أن المقال الأصلي المنشور في الصحيفة ذاتها في سبتمبر 2016، لم يخل من انتقادات وجهها للساسة اليمينيين في إسرائيل، منبها إلى أن القوة الوحيدة في العالم القادرة على إنقاذ "إسرائيل" من نفسها، هم "الإسرائيليون" أنفسهم، بابتداع لغة سياسية جديدة، تعترف بالواقع، وبأن الفلسطينيين لهم جذور تضرب في أرض فلسطين، داعيا إلى البحث عن طريق ثالث من أجل البقاء. المقال رغم أنه مفبرك إلا أنه محاولة لفضح أكذوبة سردية اليمين الديني الإسرائيلي بخصوص فلسطين والمحرقة والهيكل مستشهدا بعالم الآثار اليهودي الكبير، إسرائيل فلنتشتاين، من جامعة تل أبيب، وغيره من علماء الآثار الذين أكدوا "أن الهيكل أيضاً كذبة وقصة خرافية ليس لها وجود، وأثبتت جميع الحفريات أنه اندثر تماماً منذ آلاف السنين". 

إن المشكلة الكبرى التي يعاني منها الساسة اليمينيون المحكومين برؤيتهم الأيديولوجية هي انفصالهم عن الواقع لإصرارهم على إنكار الحقائق الواضحة وفي مقدمتها أكذوبة أن فلسطين أرض بلا شعب، بل إنها أرض لها شعب يدافع عنها بكل الوسائل الممكنة وسيظل يدافع عنها، حتى لو تم اقتلاعه من الأرض، سيحمل قضيته أينما حل. وأنه سيواصل حربه من أجل حقوقه المشروعة وأنه قادر على تحويل كل شيء تطوله أياديهم إلى سلاح. وعليه إن ترحيل الفلسطينيين قسرا من أرضهم لن يعني نهاية الصراع وإنما يعني استمراره ومواصلته من أرض جديدة وبأدوات جديدة. 

على قادة إسرائيل أن يدركوا أن ما بينهم وبين المحيط الذي يتواجدون فيه صراع ممتد وعداء من الصعب أن يزول بتوقيع اتفاقية هنا أو هناك، عليهم أن يدركوا لن يستطيعوا تحقيق أي تقدم في هذه المواجهة بذات السياسات التي اتبعوها على مدى 70 عاماً، فالبيئة في الدولة العربية أيضا تتغير وتفرز أجيالا جديدة كسرت جدار الخوف وقادرة على موصلة الكفاح بأساليب جديدة لم يعهدها الإسرائيليون من قبل.
---------------------------
بقلم: أشرف راضي

مقالات اخرى للكاتب

حرب غزة 2023.. مستقبل غزة أم مستقبل فلسطين؟





اعلان