20 - 06 - 2024

حرب غزة 2023.. حول التناقض الرئيسي والتناقضات الثانوية

حرب غزة 2023.. حول التناقض الرئيسي والتناقضات الثانوية

طرحت مجلة الإيكونوميست في عددها الصادر يوم 22 أكتوبر سؤالا حول مصير الاتفاقات الإبراهيمية التي وقعتها الإمارات والبحرين، وكذلك مصير الجهود الأمريكية لتطبيع العلاقات بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل، في ضوء التداعيات الإقليمية المترتبة على الحرب الدائرة في غزة. مناسبة طرح السؤال هو لقاء لاحق على نشر التقرير سيجمع مئات المصرفيين والمديرين التنفيذيين في العاصمة السعودية الرياض لحضور ملتقى "مبادرة مستقبل الاستثمار"، وهو مؤتمر استثماري يعرف باسم "دافوس في الصحراء". وتعاملت المجلة الاقتصادية العريقة بسخرية على ما يبدو من محاولة رجال المال التظاهر بأن الأمور تسير كالمعتاد في منطقة تغلي، وفي ظل وضع من المحتمل أن يتطور، في كل لحظة، إلى مواجهة إقليمية قد تمتد إلى مناطق أخرى في العالم. لكن تحليل محتوى المقال، يلخص جانباً من جوانب المشهد المتنافر للتحولات التي أعادت رسم التحالفات في المنطقة على أساس التناقضات الحاكمة لها. 

من المهم هنا التمييز بين التناقض الرئيسي وبين التناقضات الثانوية في واحد من التطبيقات المهمة للقواعد التي صاغها الزعيم الصيني الراحل ماو تسي تونج في كراسة "في التناقض"، وهو بحث فلسفي كتبه في أغسطس 1937، أي قبل أكثر من عشر سنوات من انتصار الثورة الشيوعية التي قادها. وقدم ماو في هذا البحث مفهوما جديداً أحدث نقلة مهمة في فهم الصراعات وإدارتها والتعامل معها، سواء من قبل الأطراف المنخرطة بشكل مباشر في الصراع، أو من قبل الأطراف التي تدير الصراعات وتوجهها بما يحقق مصالحها دون أن تنخرط بشكل مباشر. 

ومن خلال متابعة تصورات العامة وتحليلات المتخصصين للحرب الدائرة الآن في غزة، أن ما قدمه ماو تسي تونج يفيد كثيراُ في تطوير فهمنا للصراع مع إسرائيل وتحديد مساراته ومآله، ويحرر تفكيرنا من الأوهام والخرافات التي ارتبطت بهذا الصراع، الذي أصبح مسكونا بشحنات شعورية وعاطفية معطلة للعقل، وتداعب المشاعر والمعتقدات الدينية لدى الطرفين وتدغدغها وتتلاعب بها لإخفاء جوهر الصراع.

في تقديمه لكراسة ماو تسي تونج، أشار المفكر الراحل سلامة كيلة إلى الإضافة المهمة التي قدمها ماو، والمتمثلة في إشارته إلى تعدد التناقضات، وتمييزه بين ما هو رئيسي وما هو ثانوي في هذه التناقضات، وتطرقه إلى تفصيلات عن الطرف الرئيسي في كل تناقض، وتحديده لمركز التعادي في التناقض، إضافة إلى إشارته إلى الوحدة والصراع بين طرفي التناقض، مما ساهم في جعل الوعي بالواقع أكثر شمولية وعمقا، موضحاً أن تعدد الصراعات في الواقع إنما هو نتيجة لتعدد التناقضات. 

وبالتالي، من الضروري تمييز ما هو رئيسي من هذه التناقضات عن الثانوي فيها، وكيفية التعامل مع كل منها من أجل حسم التناقض الرئيسي. لكن كيلة أعاد تموضع الطرح الذي قدمه ماو تسي تونج في المنطق المادي الجدلي الذي يقوم على ثلاثة قوانين أساسية، هي: صراع المتناقضات -الأضداد- ووحدتها؛ والتراكم الكمي والتراكم النوعي؛ ونفي النفي. فالتناقض بين طرفين لا يتم حله بانتصار طرف على الآخر ونفيه، على النحو الذي يطرحه المنطق الصوري الأرسطي والمذاهب الفكرية المتأثرة به، والتي تنطلق من فكرة التعادي المطلق أو "التضاد" الذي يفرض تصوير الواقع في ثنائيات متعادية والصراع من أجل تهشيم أحدهما، بل يرى أن التناقض بين طرفين لا يتفاقم إلا عبر التراكم المتحقق في كل منهما، وإذا حسم لمصلحة النفي فمن أجل إعادة صياغة مجمل التكوين المجتمعي في تركيب جديد. 

إن فهم هذه القانون الذي وضعه ماو في صورة مبسطة وطوره سلامة كيلة من خلال إعادة ربطه بالمنطق المادي الجدلي وقوانينه الثلاثة، ضروري لفهم المرحلة الراهنة في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، وربطها بمراحله السابقة، سواء على النطاق الإقليمي الأوسع وربما النطاق العالمي الأوسع، أو على المستوى الأضيق كصراع بين جماعتين على الأرض، ومحاولة تمييز التناقض الرئيسي فيه، الذي يعمل باستقلالية عن وعي الأطراف، عن التناقضات الثانوية الأخرى المتضمنة فيه والتي قد تتصور الأطراف أنها التناقض رئيسي، رغم ثانويتها بل هامشيتها في صيرورة الصراع وتطوراته، فبدون التمييز بين ما هو رئيسي وما هو ثانوي في هذا الصراع، لن نستطيع فهمه وفهم تحولاته، ناهيك عن محاولة استشراف مساراته المستقبلية وامتلاك المعرفة والأدوات التي تعين على إدارته.    

الاستقلال الوطني والديمقراطية 

لا ينفصل الصراع مع إسرائيل، سواء في دائرته الأضيق مع الشعب الفلسطيني أو في دائرته الأوسع مع الإقليم، عن كفاح الشعوب العربية من أجل تحررها الوطني والسياسي. لقد كان الشعب المصري في ثورته التاريخية في عام 1919 ونخبته الوطنية في ذلك الوقت، مدركان للارتباط الوثيق بين الاستقلال الوطني والحكم الدستوري فكانت معركتهما من أجل تأكيد الحكم الدستوري تمضي مع كفاحهما من أجل التحرر الوطني، واعتبرا التحرر السياسي شرطاً ضرورياً للتحرر الوطني من خلال شعار "الدستور والاستقلال" الذي نادت به الثورة. وعلى الرغم من حصول كل الدول العربية على استقلالها السياسي عن القوى الاستعمارية بعد الحرب العالمية الثانية، وتصفية مظاهر هذا الاستعمار المتمثلة في وجود قوات احتلال على أراضيها، إلا أن هذا الاستقلال كان منقوصاً، بسبب قيام إسرائيل على جزء من الأرض الفلسطينية في عام 1948 من ناحية، وبسبب طبيعة نظم الحكم الاستبدادية والثقافة الداعمة لهذه الأنظمة، من ناحية أخرى. 

المفارقة، هي أن قيام نظم حكم استبدادية في بعض البلدان العربية كان أحد النتائج المترتبة على حرب 1948، وأن الصراع مع إسرائيل استخدم لتأجيل الاستحقاقات الدستورية للشعوب بمبررات تتعلق بالأمن القومي وبشعارات مثل "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، الأمر الذي أوجد وضعاً بدت فيه إسرائيل، التي تأسست كجمهورية برلمانية، واحة من واحات الديمقراطية في المنطقة، ولم تكن هذه المسألة مسألة ترويج لإسرائيل في الدوائر الغربية وحسب، ذلك أن النخبة التي أسست هذا الكيان ووضعت ملامحه كانت حريصة على أن يكون الحكم في الكيان الجديد حكماً ديمقراطياً دستورياً، كما حرصت على مبدأ استقلال القضاء وسيادة القانون على مواطني الدولة، كما عملت على تطوير النظام الديمقراطي لصالح جميع السكان، يهودا وعرب، بالرغم من الطابع والتمييزي الذي قامت عليه الدولة المتمثل في قانون العودة وسياساتها العدوانية ضد الفلسطينيين الخاضعين للاحتلال. 

غير أن هذه الصيغة التي قامت الدولة على أساسها، والتي كانت أحد نقاط تميزها لعقود، باتت مهددة في العام الأخير مع تشكيل حكومة ائتلافية تضم أحزاب يمينية قومية ودينية متطرفة بزعامة الليكود، وسعي هذه الحكومة مستغلة تمتعها بالأغلبية في الكنيست لتغيير القانون الأساسي وإخضاع السلطة القضائية أيضا للأكثرية عبر قانون التغلب، الأمر الذي يؤدي إلى ترسيخ مبدأ استبداد الأكثرية الذي غالبا ما يكون مقدمة لفرض صيغة استبدادية في الحكم. ولم يحدث هذا التطور نتيجة لاحتدام التناقضات داخل المكون اليهودي في هذا الكيان فقط، وإنما حدث أيضا نتيجة لاحتدام التناقض الخارجي الناتج عن الصراع القومي مع الفلسطينيين الخاضعين للاحتلال في الضفة الغربية والخاضعين للحصار في قطاع غزة. لكن الأمر اللافت هنا، أنه رغم التناقض الداخلي في الكيان الناتج عن حقيقة أنه ثنائي القومية، إلا أنه تعامل كوحدة واحدة مع التناقض الخارجي بالرغم من مكونه الفلسطيني. ويلاحظ أيضا أن فلسطيني الداخل لم يكونوا جزءً من الحراك المضاد لإجراءات الحكومة اليمينية والانقلاب على الصيغة الديمقراطية، وكأن الأمر لا يعنيهم رغم أن التحليلات تشير إلى أنهم قد يكونوا الضحية الأولى لهذه التعديلات التي قد تكون مقدمة لتغييرات جذرية لفرض تصور قوى اليمين الديني الصهيونية بالنسبة لشكل الدولة ومكوناتها وعلاقاتها مع المحيط. 

في هذا السياق أيضا يمكن تفسير موقف فلسطيني الداخل من الحرب. فمقارنة بجولة عام 2021، التي اندلعت على خلفية أحداث حي الشيخ جراح في القدس، والتي أطلقت عليها حماس اسم "سيف القدس"، فإن الجولة الراهنة في الحرب مع إسرائيل شهدت تراجعا عن التراكم الذي تحقق في 2021، والذي كان شاملاً لفلسطيني الداخل، وهو أمر جدير بالملاحظة، لاسيما وأنه يعزز التصوير الإسرائيلي للجولة الراهنة باعتبارها حرب ضد منظمة "إرهابية"، رغم كل الفظائع التي ارتكبت ضد المدنيين في غزة. ولا يمكن تفسير رد فعل الفلسطينيين في الضفة الغربية أو فلسطيني الداخل، من خلال التدابير الأمنية التي فرضتها إسرائيل فقط، وإنما يمكن تفسيره أيضا من خلال رؤية الأطراف المنخرطة في الصراع للتناقض الرئيسي الحاكم لهذه الجولة، فالتناقض مع حماس بالنسبة لكثير من القوى الفلسطينية في الداخل أصبح تناقضاً رئيسياً، ربما بفعل الانقسام الذي أحدثه انقلاب حماس على السلطة الفلسطينية في عام 2007. وعلى الرغم من الدمار الواسع الذي ألحقته إسرائيل بالقطاع وعلى الرغم من الفظائع التي ارتكبتها ضد المدنيين، لاسيما الأطفال والنساء. هذا الموقف من حماس لم يقتصر فقط على الفلسطينيين وحدهم، وإنما كان ملحوظاُ في معظم البلدان العربية، خصوصاً تلك المنخرطة في صراع مع جماعات الإسلام السياسي، وفي مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين.

التناقضات الحاكمة للصراع     

فرضت طبيعة نظم الحكم في المنطقة العربية، وفي منطقة الشرق الأوسط الأوسع، تناقضاً يحكم علاقات الدولة بالمجتمع، أعطى لمنطق الدولة الأسبقية على مصالح المجتمع. هذا الوضع كان، على الأرجح، نتيجة لحدة الانقسامات التي تعاني منها المجتمعات العربية على أسس اقتصادية-اجتماعية، تعبر عنها الانقسامات الطبقية الحادة بين من يملكون ومن لا يملكون، ليس على صعيد المجتمعات الوطنية المحلية وحسب، وإنما على المستوى الإقليمي أيضاً، فيما يعرف بالتناقض بين مجتمعات الثروة وبين مجتمعات الثورة. هناك أيضا انقسامات قومية وسياسية ناجمة عن تبني أيديولوجيات وفلسفات متناقضة في الحكم، أخرى اجتماعية على أسس عرقية أو طائفية. ونتيجة لهذا الوضع كانت هناك ضرورة لنظم حكم تكبح، أو بالأحرى تقمع، الصراعات التي قد تنشأ نتيجة لهذه الانقسامات الحادة. وعلى الرغم الخلافات الشديدة بين النظم الحاكمة للدول العربية الناجمة عن تباين في المصالح والرؤى والتنافس على النفوذ والثروات، أو بسبب الانحياز لقوى دولية متصارعة، إلا أن النظم الحاكمة العربية متفقه على ضرورة قمع شعوبها، حتى وإن دعم نظام ما قوى معارضة ضد نظام الحكم في دول أخرى، مثلما تفعل قطر في الوقت الحالي، ومثلما فعلت من قبل دول أخرى.

رغم توافق النخب العربية بعد حرب 1948، على أن إسرائيل وسياساتها العدوانية تمثل خطرا مشتركا على الجميع وعلى الأمن القومي العربي، ظلت الصراعات العربية-العربية ملمحا رئيسيا في السياسات العربية خلال تلك الفترة، كما تجلى في كثير من الحروب الأهلية العربية التي تدخلت فيها الأنظمة الحاكمة الأخرى لتتحول إلى حروب بالوكالة. كانت النخب العربية متفقة على أن التناقض الرئيسي هو التناقض مع إسرائيل، وأن التناقضات الأخرى القائمة تناقضات ثانوية، سرعان ما تتراجع لحساب التناقض الرئيسي. ولم يكن لتباين المواقف العربية في إدارة الصراع مع إسرائيل تأثير على هذه الرؤية، حتى في ظل مقاطعة مصر بعد توقيع اتفاقيات معاهدة السلام مع إسرائيل في عام 1979، فقد ظلت النخب والشعوب العربية تنظر لإسرائيل باعتبارها عدو، خصوصا بسبب سياساتها العدوانية ضد الفلسطينيين والدول العربية. غير أن احتدام التناقضات داخل المجتمعات العربية، خصوصاً مع صعود جماعات الإسلام السياسي التي تلقت زخماً بتأثير الثورة الإسلامية في إيران في عام 1979. 

إن لجوء هذه الجماعات إلى العنف المسلح في صراعها مع الحكومات الوطنية، جعل من التناقض مع المعارضة الداخلية تناقضاً رئيسياً بالنسبة للتناقض مع إسرائيل. ورغم التطورات التي أعقبت حسم الصراع مع هذه الجماعات في مصر والجزائر وسوريا والعراق، ظل تهديد جماعات الإسلام السياسي بالنسبة لكثير من أنظمة الحكم في المنطقة العربية يحظى بأسبقية على مصادر التهديد الأخرى، علاوة على التهديدات المرتبطة بالانقسامات الاجتماعية والسياسية والقبلية القومية الحادة التي كانت محركا لصراعات أخرى في بعض دول المنطقة، لاسيما السودان في حربه الأهلية الممتدة التي انتهت بانفصال جنوب السودان أو في الصراع في إقليم دارفور في غرب السودان وفي اليمن والعراق.

كذلك لعبت الحرب العراقية-الإيرانية (1980-1988) دوراً كبيرا في تراجع التناقض مع إسرائيل إلى تناقض ثانوي، مع التركيز على الخطر الذي تمثله الثورة الإيرانية أو التهديد الذي يمثله المشروع النووي الإيراني، لاسيما بالنسبة لدول الخليج العربية. لقد لعب ملفا الإسلام السياسي وإيران دورا رئيسيا ليس فقط في تهميش التناقض مع إسرائيل لتصبح ثانوية والتركيز على التناقض مع مشروع الأصولية الإسلامية بشقيه السني والشيعي، باعتباره التناقض الرئيسي، وعزز صعود القاعدة، وتأسيس "الجبهة العالمية للجهاد ضد اليهود والصليبين" في عام 1998 على يد أسامة بن لادن وأيمن الظواهري من حدة هذا التناقض، ليس فقط على مستوى السياسات الوطنية في البلدان العربية وإنما أيضا على صعيد عالمي بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر وإعلان "الحرب الإرهاب". والسؤال الآن، هو هل نجح هجوم السابع من أكتوبر الذي شنته حماس في إعادة التناقض مع إسرائيل إلى وضعه كتناقض رئيسي بين إسرائيل والعالم العربي، سواء على مستوى الحكومات العربية أو على مستوى الشعوب، أم ستظل التناقضات الأخرى الداخلية والإقليمية تحظى بأسبقية كمحركات للصراع في المنطقة؟ وهل تعمل هذه التناقضات في اتجاه واحد بما يسمح للتأثير المتبادل بأن يغير من طبيعة الصراع بوضعه في سياق أوسع عالمي، كصراع للشعوب النامية مع المراكز الرأسمالية المتحكمة في توجيه الحكومات في الأطراف، أم أنها تعمل في اتجاهات متنافرة ومتعارضة؟

محور المقاومة ومحور التطبيع

كشفت الجولة الحالية للصراع في غزة ومواقف القوى الإقليمية المختلفة منها عن تناقض آخر ناشئ على المستوى الإقليمي بين محور المقاومة الذي ترعاه إيران وتقوده وبين محور التطبيع الذي تقود المملكة العربية السعودية والإمارات والآخذ في التبلور بفعل اتفاقات السلام الإبراهيمية التي وقعتها إسرائيل مع الإمارات والبحرين والمغرب، وفق صيغة "السلام مقابل السلام" التي اقترحها، رئيس الوزراء الليكودي بنيامين نتنياهو وبضغوط أو محفزات قدمتها الولايات المتحدة، وهي الصيغة التي فصلت بين تطبيع العلاقات مع إسرائيل وبين تسوية القضية الفلسطينية، لتزيد الضغوط على نهج السلطة الفلسطينية بزعامة الرئيس محمود عباس ومساعيه لتغيير الوضع من خلال الحملة الدبلوماسية على المستوى الدولي، لاسيما في الأمم المتحدة، وتعلي من أهمية وتأثير محور المقاومة الذي لا يرى سوى بديل الكفاح المسلح والمقاطعة لإدارة الصراع مع إسرائيل، فيما كانت السعودية تقف في المنتصف بين المحورين بإصرارها على ربط التقدم في علاقتها مع إسرائيل بتحقيق تقدم على الساحة الفلسطينية، وهو أمر تعارضه إسرائيل، وخصوصاً الحكومة الإسرائيلية الحالية الرافضة لتقديم مقابل لتسوية مع الفلسطينيين. 

هناك من المحللين من يرى أن الحرب الراهنة على حماس في غزة قد تفتح الطريق أمام تطبيع العلاقات بين إسرائيل والسعودية، رغم إقدام البحرين والأردن على خطوة استدعاء السفراء وتجميد العلاقات الدبلوماسية، ورغم ما أحدثته الجرائم ضد المدنيين في غزة من أثر في نفوس كثير من الشعوب العربية التي تزايدت معارضتها للتطبيع مع إسرائيل والتي تنخرط في حملات للمقاطعة تشمل أيضا الدول والشركات الداعمة لإسرائيل. 

إن التحدي الأساسي الذي يتعين على حكومات المنطقة أن تتعامل معه إذا كان لها أن تتشارك لوضع استراتيجية شاملة مشتركة أو تحقيق حد أدنى من تنسيق المواقف، لإدارة الصراع مع إسرائيل، هو القدرة على الحيلولة دون أن يتحول التناقض بين محوري المقاومة والتطبيع إلى تناقض رئيسي، يمكن إسرائيل من استغلاله وتوظيفه لتعظيم مكاسبها على الشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة وعلى حساب المصالح العربية. 

إن المؤشرات الراهنة لا تدل على التحرك في هذا الاتجاه، لكن الأمر مرهون على قدرة السعودية في المضي قدما في تطبيع علاقاتها مع إيران وانتهاج سياسة مستقلة عن الولايات المتحدة، والشروع في إنجاز المصالحات الإقليمية لتحقيق توازن استراتيجي في مواجهة إسرائيل وأمريكا وحلفائهما الأوروبيين. ويعتمد إنجاز تلك المهمة على تحقيق مصالحة بين الأساليب المختلفة في الصراع مع إسرائيل والتوقف عن لعبة الإدانات المتبادلة، وإدراك أن الأساليب تتكامل وقد تتقاطع لكنها لا تتعارض طالما أن الهدف هو الدفاع عن الحقوق المشروعة والمصالح الوطنية والمصالح المشتركة، وتكثيف الضغط على واشنطن ودفعها لممارسة ضغوط على الحكومة الإسرائيلية لتعديل موقفها أو تغيير تركيبتها، مثلما فعلت إدارة جورج بوش أثناء مؤتمر مدريد للسلام الذي انطلق في عام 1992، ولا يمكن تحقيق هذا التحول إلا بالتوافق العام في المنطقة على دعم كل الخيارات الفلسطينية في المواجهة، وربما كان موقف وزراء الخارجية العرب الذين اجتمعوا مع وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن في العاصمة الأردنية عمان، الرافض لتهجير الفلسطينيين وتصفية القضية الفلسطينية خطوة أولى على هذا الطريق.
-----------------------------
بقلم: أشرف راضي

مقالات سابقة

طوفان الأقصى.. علامة فارقة في الصراع مع إسرائيل

الحرب على غزة وتوسيع مبدأ تدفيع الثمن ليصبح عقيدة قتالية للجيش

وقفة مع "حرب غزة 2023" وسيناريوهات للمستقبل

حتى لو تم تدمير غزة لن تنتهي قضية فلسطين

تغيير البيئة الإقليمية للصراع | حرب غزة 2023، وإعادة ترتيب ضرورية لأوضاعنا الداخلية والإقليمية

حرب غزة 2023 وتحولات البيئة الدولية للصراع

حرب غزة 2023.. وتجديد الصهيونية | إسرائيل تنفذ عملية ممنهجة لتصفية القضية الفلسطينية


مقالات اخرى للكاتب

حرب غزة 2023.. مستقبل غزة أم مستقبل فلسطين؟





اعلان