20 - 06 - 2024

حرب غزة 2023.. الحرب امتداد للسياسة إلا في غزة

حرب غزة 2023.. الحرب امتداد للسياسة إلا في غزة

من القواعد المستقرة في علم الحرب القاعدة الشهيرة أن "الحرب امتداد للسياسة بوسائل أخرى"، التي صاغها المفكر الاستراتيجي الألماني كارل فون كلاوزفيتز في كتابه "عن الحرب". لقد أسست هذه القاعدة لقواعد مهمة في التفكير الاستراتيجي الحديث، وللعلاقة بين السياسي المدني من ناحية، وبين الجانب العسكري من جهة أخرى، وأخضعت العسكري للسياسي والمدني. ويُكمل هذه القاعدة القول بأن "الحرب أخطر من أن تترك للجنرالات"، والمقولتان معاً تؤسسان لفكرة سيطرة السياسي المدني على قرار الحرب، فالحرب قرار سياسي استراتيجي في المقام الأول، وهي الملاذ الأخير أو الخيار النهائي بعدما يتأكد فشل الوسائل الأخرى لتحقيق الأهداف، أو تُشن لمواجهة تهديد مؤكد باستخدام القوة المسلحة. وإذا وسعنا مفهوم الحرب ليشير إلى اللجوء إلى استخدام القوة المسلحة لتحقيق هدف ما يمكن تطبيق هذه القاعدة على الأشكال المختلفة لاستخدام القوة المسلحة في صراع بين خصمين أو أكثر. 

هناك قواعد أخرى تحكم الحرب، التي تطورت أدواتها واستراتيجيتها مع تعقد الصراعات في العالم. إن ظهور مصطلحات مثل "الحرب الباردة" و"الحرب الناعمة" والحرب الهادية" و"الحروب التجارية"، وغيرها يعبر عن توسيع لمفهوم الحرب وفصله عن المفهوم العسكري الضيق، فالحرب عند كلاوزفيتز هي حالة من حالات "تنازع المصالح الذي لا يمكن حسمه إلا بالدماء"، مع إدراكه أن التجارة أيضا "حرب" لكن بوسائل أخرى. ومن النتائج المهمة المترتبة على هذه القاعدة، أيضاُ، أن كل الحروب تنتهي إلى طاولة المفاوضات، مهما طالت أو امتدت.

السؤال الآن هو، إلى أي مدى تنطبق هذه القواعد على الحرب الراهنة في قطاع غزة؟ أو بعبارة أخرى، هل هذه الحرب جرت وفق حسابات سياسية أم أنها محكومة فقط بحسابات العسكريين وميدان المعركة؟ 

مقاتلون من أجل الحرية أم "إرهابيين"

هذا سؤال تصعب الإجابة عليها نظراً للطبيعة الخاصة للصراع الإسرائيلي-الفلسطيني الذي لا يصنف كصراع دولي بين دول تتمتع بالسيادة، ذلك أن المتحقق الآن في الحالة الفلسطينية، هو حالة شعب يقاوم سلطة الاحتلال وممارساتها، في ظل انقسام على المستوى الدولي وكذلك على المستوى الإقليمي حول مشروعية الوسائل التي تستخدمها المقاومة، وهو انقسام لازم الكثير من الصراعات في العالم، وظل الانقسام محكوماً بالمواقف السياسية لهذا الطرف أو ذاك. فمن ترى دولة ما أنهم "مقاتلون من أجل الحرية" تعتبرهم دولة أخرى "إرهابيين" أو "مخربين"، ومن يتابع البيانات التي كتبتها سلطة الاحتلال البريطاني في مصر عن مقاومة المصريين لهذا الاحتلال سيجد أنها استخدمت مثل هذه التعبيرات والتوصيفات للمقاومة. سنجد أيضاً توصيفات مماثلة استخدمتها سلطة الاحتلال الفرنسي في الجزائر "للمجاهدين" الجزائريين، وهنا لفظ آخر كانت تطلقه فصائل التحرر والمقاومة على من يواجهون سلطة المحتل بالقوة المسلحة، رغم تغير دلالة هذا اللفظ في ظل التحولات التي صاحبت صعود تيارات الإسلام السياسي وبروز حركات معارضة مسلحة تطلق على نفسها اسم "الجهاد الإسلامي"، وصعود ما يعرف بتيار السلفية الجهادية. وظل هذا الانقسام مستمراً، وكان أوضح ما يكون في حالة الساندنيستا في نيكاراجوا التي واجهت النظام الاستبدادي في أمريكا الوسطى المدعوم من الولايات المتحدة، وفي حالة "المجاهدين" الأفغان و"المجاهدين" العرب الذين واجهوا الغزو السوفيتي لأفغانستان، وكلاهما كان في ثمانينات القرن الماضي.  

الأمر ذاته ينطبق على الحالة الفلسطينية. فعلى الرغم من نعت فصائل المقاومة الفلسطينية، على مختلف توجهاتها ومرجعياتها الفكرية، بالإرهاب من قبل إسرائيل والدول التي تدعمها، ترى دول كثيرة أن هذه الفصائل حركات للتحرر الوطني، بل تدين ممارسات سلطة الاحتلال الإسرائيلي، لكن ربما يثور خلاف آخر حول ماهية الأراضي المحتلة وهل هي فلسطين كلها أم الأراضي الفلسطينية التي احتلتها إسرائيل بعد حرب 1967، ونظراً لعدم وجود دولة فلسطينية تتمتع بالسيادة على أي جزء من أرض فلسطين وتحظى باعتراف دولي يمنحها وضع الدولة، يميل العالم في معظمه إلى النظر الحرب الدائرة في غزة باعتبارها نزاع مسلح داخلي بين الدولة والجيش الإسرائيليين وبين فصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة بقيادة حماس، ومن ثم لا تنطبق عليه قواعد الاشتباك التي تنطبق على الحروب الدولية. وفيما يرى البعض، من المنظور الفلسطيني ومنظور القوى المناصرة لقضيتهم، أن للشعب الفلسطيني وفصائل المقاومة حقاً مشروعاً في اللجوء للعنف المسلح لمقاومة الاحتلال، ترى إسرائيل وحلفاؤها أن لإسرائيل حقاً في الدفاع عن نفسها، ليس كسلطة احتلال وإنما ككيان يواجه تهديداً وجودياً في ظل دعوات يرددها البعض بالقضاء عليها ومحوها من على الخريطة، وهي ذات الدعوات التي ترددها الحكومة الإسرائيلية الآن في مواجهة حماس وفصائل المقاومة المسلحة، سواء في غزة أو في الضفة الغربية أو في جنوب لبنان.

يُلاحظ من مراجعة الأهداف المعلنة من قبل حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية الأخرى أو من قبل الحكومة الإسرائيلية، غلبة الاعتبارات الأمنية والعسكرية، في ظل غياب ملحوظ للأهداف السياسية يُعبر عنه غياب تصور لكيفية إدارة القطاع بعد انتهاء المواجهات المسلحة سواء تحققت الأهداف المعلنة أم لم تتحقق. ولا يمكن فهم الدعم المطلق الذي حظيت به إسرائيل، إلى الآن، من قبل الولايات المتحدة وحلفائها لاسيما الأوروبيين، بمعزل عن الرهان على قدرة إسرائيل على حسم الصراع مع حماس وفصائل المقاومة الأخرى في غزة والضفة الغربية، عسكرياً، رغم تقديرات أمريكية وغربية، بل وإسرائيلية، باستحالة تحقيق هذا الهدف، وتزايد الاقتناع بأنه لا حل للمشكلة إلا من خلال المفاوضات للوصول إلى حل الدولتين، وهو حل يستند إلى توافق عام إقليمي ودولي، وفلسطيني، في ضوء التعديلات التي أدخلت على ميثاق حماس والتي تشير إلى قبولها بحل مرحلي على أساس حدود 1967 لكن دون اعتراف بإسرائيل. على الرغم من التناقض الواضح الذي ينطوي عليه مثل هذا الطرح، لكن من شأنه أن يعيد الاعتبار للسياسة مرة أخرى ويعالج الركيزة الأساسية التي يقوم عليها منطق الحل العسكري.

إن الملابسات المصاحبة لعملية "طوفان الأقصى" التي نفذتها حماس وفصائل أخرى يوم 7 أكتوبر الماضي، تشير إلى تحول في العلاقة بين المستويين السياسي والعسكري في حركة حماس. فقد أشارت تقارير إلى أن العملية جرى تخطيطها من قبل كتائب عز الدين القسَّام في سرية واستقلالية تامة عن القيادة السياسية لحركة حماس وفرعها التنفيذي، وعلى الرغم من الدور الذي قامت به القيادة السياسية لحماس، ممثلة في المكتب السياسي، خلال المفاوضات الخاصة بالهدنة وصفقة تبادل الأسرى وكذلك تحركاتهم الدولية لكسب التأييد للمقاومة أو ممارسة الضغوط لوقف العدوان الإسرائيلي على المدنيين في غزة، إلا أن الوضع الراهن يشير إلى صعود للجناح العسكري للحركة وقياداته، وإلى سيطرة هذا الجناح من خلال تشكيلاته العسكرية الموزعة في قطاع غزة والتي تعمل من خلال شبكة معقدة للأنفاق تحت الأرض. 

إن الهجوم الذي شنته إسرائيل على قطاع غزة واستهدف البنية التحتية المدنية في القطاع لجعله مكان لا يصلح للعيش أملاً في أن يؤدي ذلك إلى نزوح جماعي لسكان القطاع كهدف أقصى، أو حرمان فصائل المقاومة من مصادر الدعم والإعاشة والقدرة على إعادة بناء قوتها العسكرية والبشرية كحد أدنى، لم يؤد إلا إلى تعزيز وضع الجناح العسكري على حساب القيادة السياسية للحركة، والأمر ذاته ينطبق على بقية الفصائل الفلسطينية، بما في ذلك حركة فتح. 

تعزيز الإطار المؤسسي للهوية الفلسطينية

إذا كانت غرفة العمليات المشتركة لفصائل المقاومة الفلسطينية، هي الإطار التنظيمي الجامع لها، فإن الخروج من هذا الوضع لا يمكن أن يحدث إلا من خلال توفير إطار تنظيمي جامع للفصائل السياسية الفلسطينية، ولا يوجد أفضل من إطار منظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها الإطار المؤسسي المعبر عن الهوية الوطنية الفلسطينية. وفشل إسرائيل في حسم المعركة مع المقاومة المسلحة باللجوء إلى القوة، يسبقه فشل آخر في محاولاتها رفض الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني. وعلى الرغم من توقيع اتفاق للسلام المرحلي مع منظمة التحرير الفلسطينية بعد مفاوضات سرية جرت في أوسلو بين عامي 1993 و1994، مع قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، والتي قامت على أساس الاعتراف المتبادل بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، إلا أن هناك قوى سياسية من معسكر اليمين الصهيوني ظلت ترفض الاعتراف بالمنظمة وقياداتها كممثل "شرعي وحيد" للشعب الفلسطيني وسعت إلى تدمير النخبة السياسية الفلسطينية من خلال حصارها وتشجيع حماس كفصيل مناوئ لسلطة فتح وهيمنتها على منظمة التحرير الفلسطينية وقيادتها، وهو الأمر الذي يعبر عنه رفض حماس الانضمام إلى إطار منظمة التحرير، رغم فوزها في الانتخابات التشريعية الفلسطينية في يناير 2006، وهو موقف غريب جرى تتويجه بانقلاب حماس على السلطة الفلسطينية وإحكام قبضتها على قطاع غزة، الأمر الذي أدى إلى حالة من الانقسام ظلت سمة مميزة للوضع الفلسطيني منذ عام 2007، وهو الانقسام الذي قدم لإسرائيل مبرراً للتنصل من التزاماتها بموجب اتفاقيات أوسلو على أساس عدم وجود مفاوض فلسطيني يتمتع بالشرعية. لكن الأهم أن هذا الانقسام كشف عن وجود توافق ضمني بين اليمين الإسرائيلي وحركة حماس.

أوضح تقرير منشور في صحيفة واشنطن بوست الأمريكية قبل أيام عن علاقة الاعتماد المتبادل بين بنيامين نتنياهو، زعيم معسكر اليمين في إسرائيل، وبين حركة حماس التي تحتكر الآن الحديث باسم المقاومة الفلسطينية، وعلى الرغم من إعلانات التدمير المتبادل الصادرة عن نتنياهو وتلك الصادرة عن حماس منذ عام 2009، إلا أن حالة من الاعتماد المتبادل والتعايش الغريب نشأت بين الجانبين في تلك الفترة. وبحسب تقرير الواشنطن بوست حدث تعايش غير مستقر بين الطرفين دام لنحو 15 عاماً، إذ وجدت حكومات نتنياهو المتعاقبة وقادة حماس أن كل منهما مفيد لتحقيق الأغراض الخاصة لكل فريق، ويشير التقرير إلى أن هذا التعايش الغريب بين الطرفين استمر على مدى سنوات من خلال فترات من التصعيد والتسويات، وفترات من الهدوء وأخرى من الفوضى، نجح الطرفان في استغلالها من أجل إحكام قبضتيهما على السلطة، في مواجهة خصوم محليين على الساحة السياسية الإسرائيلية وعلى الساحة الفلسطينية. والجولة الأخيرة من المواجهة الأكثر دموية بين الجانبين في تاريخ الصراع حدثت أيضاً على خلفية أزمة في الحكم للحكومة الائتلافية بزعامة نتنياهو وكذلك على خلفية تدني في مستويات تأييد سلطة فتح في غزة وفق استطلاع للرأي نشرت مجلة "فورين أفيرز" الأمريكية نتائجه في عدد سبتمبر الماضي. 

الجديد، أن هذه الجولة من المواجهة المسلحة بين الجانبين لم تؤد إلى فارق لصالح تعزيز وضع أي من الطرفين داخلياً، فنتنياهو يواجه أزمة متصاعدة داخل الائتلاف الذي يقوده وعلى الساحة السياسية الأوسع ولا أمل له إلا بالسعي وراء أهداف متعارضة وهي أشبه بالسراب يتعلق الهدف الأول منها بعودة كل المخطوفين وهو هدف لا يتم إلا من خلال التفاوض والتوصل إلى حلول وسط مع الخصم الرئيسي الذي يحاربه، بينما يتعلق الهدف الثاني، بالسعي لاستئناف القتال في غزة من أجل القضاء على حماس في ظل تراجع ملحوظ في الدعم لهذه العملية نتيجة للضغوط المتزايدة التي تمارسها قطاعات من الرأي العام الغربي مع احتمالات لانقلاب الرأي العام في الداخل الإسرائيلي عليه، علاوة على الغضب العام غير المسبوق لفشله في منع هجوم أكتوبر ورد فعل غير المنظم في أعقابه، وتظهر استطلاعات للرأي أجريت مؤخراً أن 75 بالمئة من الإسرائيليين يطالبونه بالاستقالة الآن أو تغييره عبر الانتخابات عندما يتوقف القتال، وهو أمر يجعله أكثر حرصا على مواصلة القتال. 

في المقابل، تواجه حركة حماس، انتقادات غير مسبوقة في غزة لتركهم المدنيين عرضة للهجوم العسكري الإسرائيلي، بل وصدور تصريحات مستفزة لبعض قادتها بخصوص الأنفاق، مثل تلك التصريحات المنسوبة لموسى أبو مرزوق، عضو المكتب السياسي للحركة وآخرين، كذلك تواجه حكومة حماس في غزة غضباً شعبياً بسبب أسلوب إدارتهم للقطاع. لقد دفع هذا الوضع إلى اعتقاد بعض المحللين أن هذا التحالف الغريب القائم بحكم الأمر الواقع بين الخصمين اللدودين وصل إلى نهايته، رغم رهان بعض المحللين العرب على صعود حماس وإزاحتها لسلطة فتح، ليس في غزة فقط وإنما في الضفة الغربية أيضاً، وهو وضع لا يعمل في صالح التوجه نحو حكومة إسرائيلية توافق على استئناف العملية السياسية وإنما يدفع في اتجاه حكومة أكثر تشدداً بما ينبئ بمزيد من المواجهات المسلحة المدفوعة بالكراهية المستندة إلى المعتقدات الدينية المطلقة لدى كل طرف، ويعمق من أزمة تمثيل الشعب الفلسطيني، وهو أمر تعززه للأسف الخبرة السابقة لأسلوب إدارة حماس للسلطة والذي يستند إلى أيديولوجية جماعة الإخوان المسلمين وأسلوبها في الحكم كما تجلى في التجربة السودانية أو المصرية أو التونسية أو الليبية، والقائم على فكرة إقصاء الآخرين وتهميشهم، وقد أدى هذا الأسلوب إلى نتائج كارثية سواء بالنسبة للجماعة نفسها أو بالنسبة للأوضاع العامة للمجتمعات.

هذا التوافق القائم بحكم الأمر الواقع بين اليمين الصهيوني وبين حركة حماس لا ينفصل كثيرا عن صيغة مشاركة فصيل آخر، هو أيضاً امتداد لجماعة الإخوان المسلمين بين فلسطينيي عام 1948، تمثله القائمة العربية الموحدة بزعامة منصور عباس، عضو الكنيست، على النحو الذي تجلى في حكومة نفتالي بنيت ويائير لبيد التي أطيح بها في الانتخابات الأخيرة، وهو أيضاً انعكاس لعلاقة الاعتماد المتبادل القائم بحكم الأمر الواقع بين السياسات الإسرائيلية والحكومات العربية الاستبدادية، منذ حرب عام 1948، على النحو الذي حلله الكاتب المصري الراحل أمين المهدي في كتابه "الصراع العربي-الإسرائيلي: أزمة الديمقراطية وأزمة السلام" الصادر منتصف تسعينات القرن الماضي. ذلك أن معظم الحكومات الاستبدادية التي نشأت إثر انقلابات عسكرية في أعقاب حرب عام 1948 بررت سياساتها الداخلية وإخفاقها في تحقيق التنمية، بالحروب المتكررة مع إسرائيل، كما استغلت القوة العسكرية الإسرائيلية في كثير من الأحيان لترويع شعوبها، وكانت حروبها مع فصائل المقاومة الفلسطينية من أجل إخضاعها أكثر من حروبها مع إسرائيل. 

العودة للسياسة عبر حل الدولتين     

التوافق العام الآن الذي نلمسه من تصريحات الساسة الأمريكيين والأوروبيين والزعماء في المنطقة، هو ضرورة تنشيط العملية السياسية بين إسرائيل والفلسطينيين وصولاً إلى حل قائم على أساس الدولتين. ومن شأن هذا العملية إذا ما تحققت أن تنقل الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين من وضعه الحالي كنزاع مسلح إلى وضع الصراع الدولي والحروب الدولية، الأمر الذي قد يحرم إسرائيل من مبرر يسوغ لجيشها في حربه ضد المقاومة الفلسطينية أن يصل إلى حد هذه الانتهاكات الصارخة للقواعد الدولية المتعارف عليها للحرب، والذي قد يؤمن مسؤوليها ذلك من المحاكمة لارتكابهم جرائم حرب، إلا أن الشروط الضرورية اللازمة للمضي قدما في مثل هذا الحل غير متحققة لدى الجانبين، في الوقت الراهن على الأقل. ولا يزال المتطرفون على الجانبين قادرين على تغيير قواعد اللعبة عبر اللجوء للقوة المسلحة، الأمر الذي ينبئ باستمرار الصراع بين الجانبين عبر جولات على غرار المواجهات المتكررة في غزة أو في الضفة الغربية، مع احتمال تدخل أطراف أخرى تسعى لتوظيف الصراع لخدمة مشاريعها السياسية للمنطقة. كذلك تجدر الإشارة أن هذا الطرح الخاص بحل الدولتين يقابله طرح إسرائيلي للحل قائم على أساس "دولة واحدة" يصبح فيها الفلسطينيون أقلية، بالمعني الاجتماعي والسياسي، ويقوم هذا الحل على أساس يهودية الدولة مع تطبيق أنظمة للفصل بين اليهود والعرب على غرار معازل السود في نهاية الحكم العنصري في جنوب أفريقيا، وأن هذا الطرح هو ما تسعى إسرائيل إلى فرضه بالقوة، ولا يمكن لهذا الطرح أن يمر إلا بإخضاع الفلسطينيين بشكل تام، بتوجيه ضربة ساحة للمقاومة، وهو أمر شبه مستحيل. 

لكن لا بد من التنبيه إلى أن من الأمور التي قد تساعد على تمرير مثل هذا الحل اتفاقيات التطبيع غير المشروطة مع إسرائيل وفق صيغة "السلام مقابل السلام" التي قامت عليها الاتفاقيات الإبراهيمية.، مع الإمارات والبحرين والمغرب ويجري توسيعها لتشمل السعودية وبلدان أخرى. كذلك تجدر الإشارة إلى أن صعوبة التوصل إلى حل سياسي لهذا الصراع المصيري تغري الأطراف الوسيطة القادرة على ممارسة الضغوط على أطراف الصراع إلى التمسك بمنطق إدارة الصراع عوضاً عن حله بشكل حاسم أو على الأقل بتطبيق قواعد القانون الدولي عليه، ويعبر عن هذا الموقف، التزام الولايات المتحدة التي تملك الكثير من أوراق القوة بمبدأ أنه لا يمكن فرض حلول على أطراف الصراع، وتقصد في هذه الحالة الطرف الإسرائيلي. ورغم الخسائر البشرية الباهظة التي حدثت في الجولة الأخيرة من المواجهة العسكرية، وعلى الرغم من احتمالات خروج الوضع عن سيطرة من يديرون الصراع نتيجة لاشتعاله على المستوى الإقليمي الأوسع، إلا أنه لا يوجد ما يشير بعد إلى أننا بصدد حل للصراع، والأرجح هو استمرار منطق إدارة الصراع، ووفق هذا المنطق، فإن الحرب لا تكون بالضرورة امتداد للسياسة وإن أحدثت نتائج كبيرة على المستوى السياسي العام، وطنيا وإقليمياً.
-------------------------------
بقلم: أشرف راضي


مقالات سابقة للكاتب عن حرب غزة

طوفان الأقصى.. علامة فارقة في الصراع مع إسرائيل

الحرب على غزة وتوسيع مبدأ تدفيع الثمن ليصبح عقيدة قتالية للجيش

وقفة مع "حرب غزة 2023" وسيناريوهات للمستقبل

حتى لو تم تدمير غزة لن تنتهي قضية فلسطين

تغيير البيئة الإقليمية للصراع | حرب غزة 2023، وإعادة ترتيب ضرورية لأوضاعنا الداخلية والإقليمية

حرب غزة 2023 وتحولات البيئة الدولية للصراع

حرب غزة 2023.. وتجديد الصهيونية | إسرائيل تنفذ عملية ممنهجة لتصفية القضية الفلسطينية

حرب غزة 2023.. حول التناقض الرئيسي والتناقضات الثانوية

حرب غزة 2023.. التفاعل المتسلسل الذي أوصلنا لهذا الوضع وكيف ننهيه

حرب غزة 2023.. في مواجهة الرسائل الخطيرة من قلب المعركة

مقالات اخرى للكاتب

حرب غزة 2023.. مستقبل غزة أم مستقبل فلسطين؟





اعلان