20 - 06 - 2024

مدخل إلى تهويد القدس (1 – 3)

مدخل إلى تهويد القدس (1 – 3)

التهويد هو عملية نزع الطابع الإسلامي والمسيحي عن القدس وفرض الطابع الذي يسمى "يهوديًا" عليها. وتهويد القدس جزء من عملية تهويد فلسطين ككل، ابتداءً من تغيير اسمها إلى (إرتس يسرائيل)، مرورًا بتزييف تاريخها، وانتهاءً بهدم القرى العربية وإقامة المستوطنات ودعوة اليهود للاستيطان في فلسطين. وقد بدأت عملية التهويد منذ عام 1948م، وزادت حدتها واتسع نطاقها منذ يونيو 1967م. وقد ارتكزت السياسة الإسرائيلية على محاولة تغيير طابع المدينة السكاني والمعماري بشكل بنيوي فاستولت السلطات الإسرائيلية على معظم الأبنية الكبيرة في المدينة واتبعت أسلوب نسف المنشآت وإزالتها لتحل محلها أخرى يهودية، كما قامت بالاستيلاء على الأراضي التي يمتلكها عرب وطردهم وتوطين صهاينة بدلاً منهم. يعد التهويد الثقافي والإعلامي أحد المحاور الهامة في مخططات تهويد القدس، ويمس هذا التهويد تراث المدينة بدرجة كبيرة ذلك لأنه التعبير الحي عن هويتها، لذا بات التراث هاجسا يمس بصورة يومية المقولات اليهودية الدارجة حول المدينة، بل تحول مؤخرا إلى قلق دائم لدى اليهود. وهم يحاولون من آن لآخر الإجابة على التساؤلات المطروحة أمامهم حول تاريخ القدس وتراثها ومدى يهوديتها. 

وللتهويد الثقافي والإعلامي صور شتى، منها التربوي، ومنها ما يمس مفاهيم ماهية القدس وحدودها، ومنها ما يتعلق بتزييف الحقائق التاريخية حول مدى قدسية القدس لدى اليهود ومنها ما يمس حقيقة الهيكل وهل له مكان ثابت مقدس يجب أن يبنى فيه؟

ديفيد الصغير

تعتبر التربية عاملاً حيويًا في بث الأفكار والمعتقدات لدى الشعوب. لذا كان اليهود حريصين على بث ما يؤيد ادعاءاتهم في القدس وفلسطين من خلال المناهج الدراسية وقصص الأطفال ومن ذلك ما يروى في قصة (ديفيد الصغير) بصورة تغرس أصالة الوجود اليهودي حيث تروى القصة ما يلي (في ذلك العام، في أورشليم ـ القدس ـ كان ديفيد صغيرًا جدًا، عندما هدم الرومان وأحرقوا هيكل سليمان الرائع. بناء على أوامر الإمبراطور تيتوس، قام الرومان بالقتل والنهب. وقطع جنودهم بسيوفهم القوية رؤوس الأطفال الصغار، ولم يتركوا إلا بعض الحجارة المنضدة والتي نسميها حائط البراق) وبما أن ديفيد الصغير يركض سريعًا، وهو كذلك يتمتع بالدهاء، فقد أفلت من الجلادين الرومان. ابتدأ اليهود الذين خرجوا أحياء بالانتشار في العالم، وهذا الهرب في كل يسمى الدياسبورا). (ها هم اليهود دون وطن، لكن ديفيد الصغير يقول العام القادم في أورشليم). (وبعد الرومان جاء الغزاة البيزنطيون، ثم الفرس، ثم الصليبيون الذين هم فرنسيون وإنجليز وألمان، وقالوا بأنهم هنا لتخليص قبر المسيح. كانوا يحملون صلبانا على صدورهم وعلى سيوفهم، كانوا رهيبين، فقتلوا كثيرا من اليهود. وليبرروا عملهم احتجوا بأنهم لم يميزوا بينهم وبين العرب. ولمدة طويلة جدًا كان الاحتلال التركي، وترك الباشاوات اليهود يقبلون حائط البراق، كما بنوا سورًا جميلاً حول أورشليم، وما زال ديفيد الصغير دون وطن، لكنه يقول العام القادم في أورشليم). 

خيبة أمل

ولكن هناك بُعدا آخر وهو إكساب الرؤية اليهودية لمدينة القدس طابعًا علميًا، وهذا يبدو من خلال نشاط الجامعات والمؤسسات الإسرائيلية، فبالرغم من تسليم الأثريين اليهود بفشلهم في العثور على حجر واحد من أية بناية تنسبها التوراة إلى النبي سليمان بعد مرور عشرات السنوات من التنقيبات الأثرية الإسرائيلية المكثفة في العديد من المواقع بالقدس. لم يُعثر على شيء ذا بال يؤكد يهودية المدينة. وينسب اليهود حجرا نقشت عليه أسماء الشهور بالحروف العبرية القديمة المشتقة من الأبجدية الفينيقية، وجدوه في نطاق القدس، إلى عصر النبي سليمان. وهناك حجر آخر تدل نقوشه على نسبته للنبي حزقيال عثر عليه في قناة مياه خارج القدس. وقد أدت نتائج الحفائر إلى جوار الحرم القدسي عن الكشف عن ثلاثة قصور كانت مخصصة لإقامة الأمراء الأمويين الذين حكموا المدينة، وهو ما مثل خيبة أمل كبيرة لدائرة الآثار الإسرائيلية التي تخضع لها المنطقة حاليًا فضلاً عن خيبة الجامعة العبرية وجمعية كشف إسرائيل التي قامت بالحفائر. وكانت الجمعية السابق ذكرها دعمت برنامج بنيامين مازار؛ الأستاذ في الجامعة العبرية والذي وضع مشروعًا للكشف عن الطبقات الدنيا من الهيكل في موضع الحرم القدسي الشريف وبالقرب منه، وهو ما أدى إلى هدم العديد من الآثار الإسلامية في مناطق الحفر، ولم يعثر اليهود على أي أثر يعتد به يعود إلى عصر الهيكل المزعوم.

إساءة استخدام العلم

هكذا أتيحت لليهود وللباحثين عن الآثار وفقًا لما جاء في التوراة فرصة ذهبية للبحث عن مملكة إسرائيل في القدس من خلال التنقيبات الأثرية، ولكن نتائج حفائرهم لم تؤد إلى شيء ذا بال. بالرغم من هذا فهم يعطون مشروع إعادة بناء الهيكل اليهودي بعدًا علميًا، فقد أصدرت الجمعية الجغرافية الإسرائيلية عددًا خاصًا من مجلتها العلمية سنة 1996 عن إعادة بناء الهيكل تضمن مقابلة مع مهندس يهودي حول عمارة الهيكل، وأبحاثا عن الهيكل الأول والهيكل الثاني، وكذلك النماذج المعاصرة التي وضعت لبناء الهيكل في موضع قبة الصخرة، ودراسة أثرية مقارنة بين تصور هيكل هيرود وما هو موجود اليوم في الحرم القدسي وينسبه اليهود إلى عمارة هيكل هيرود مثل الأقصى القديم، وهو سلسلة من عقود تمثل قبوًا أسفل المسجد الأقصى فضلاً عن حائط البراق. وصدور هذا العدد من مجلة علمية معترف بها في الغرب يوحي بجدية وأصالة الادعاءات الإسرائيلية، بل ويستخدم هذا العدد كمرجع للمقالات الصحفية والبرامج التليفزيونية.

بل وامتد الأمر إلى إقامة معارض أثرية تضمنت بعض ما نتج عن حفريات القدس ونسب إلى اليهود بطريق لي ذراع النتائج العلمية، وتسويق هذه المعارض سياحيًا يصاحبها أدلة بلغات عديدة، وهو نوع من الدعاية الإعلامية التي تأخذ صبغة علمية.

استعان اليهود بعلم الآثار كوسيلة لتدعيم تصوراتهم حول القدس، فاكتشاف الماضي يوفر عاملا حاسما في بناء الهوية السياسية أو تأكيد الحاضر، وهو ما يوفره علم الآثار لليهود، ولذا نراهم يحرصون على أن تكون جميع الرموز الوطنية الإسرائيلية مستمدة من عناصر ذات طبيعة تراثية، مثل شعار الدولة، والأوسمة والنياشين، وطوابع البريد والنقود.

أملاك المسلمين

على الجانب الآخر مازال العرب مغيبين في مجال الدراسات الأثرية التي تتعلق بفلسطين خاصة في عصور ما قبل التاريخ التي يركز عليها اليهود حاليًا لإثبات وجودهم في فلسطين بصفة عامة والقدس بصفة خاصة. بل إن التركيز على تراث المدينة الإسلامي لم يخرج عن الحرم القدسي، ولذا بات من الملح الاهتمام بهذا المجال كجزء من الخطاب السياسي الإسلامي والعربي الخاص بالقدس، فوضع خريطة طبوغرافية لتطور عمران القدس من عصور ما قبل التاريخ حتى العصر الحديث أمر حيوي، خاصة إذا أردنا الحديث عن ملكيات الأوقاف الإسلامية في المدينة التي استولت عليها إسرائيل. ومع توافر الوقفيات الأيوبية والمملوكية والعثمانية التي توضح بالتفصيل الدقيق عمران المدينة في هذه العصور وملكيات الأراضي والمباني بها وبالمناطق المحيطة بها والتي أصبحت اليوم جزءًا لا يتجزأ من المدينة. إن هذا العمل لا شك سيكون مفيدًا للباحثين وللسياسيين ليظهروا المدينة كجزء من مقدسات وأملاك المسلمين التي لا يجوز التنازل عنها.

إننا نستطيع من خلال وثائق القدس وآثارها المعمارية الإسلامية والمسيحية التي مازالت باقية إلى اليوم رسم صورة متكاملة للقدس في العصور المختلفة، وتحديد ملكية أراضيها خاصة ما يقع في ملكية الأوقاف منها. ومما يساعد على ذلك أن الوقفيات وسجلات محكمة القدس الشرعية تحدد حدود كل منشأه وأبعادها والطرق التي تقع عليها ومكوناتها والأراضي التي وقفت عليها إن كانت منشأه دينية أو خيرية أو منشأه اقتصادية تدر ريعًا. إن هذه الخريطة الطبوغرافية التاريخية ستساعد بلا أدنى شك في استرداد الأراضي التي استولت عليها سلطات الاحتلال الإسرائيلي. سواء في القدس أو في باقي أراضي فلسطين المحتلة. 

لقد فهم اليهود أهمية وثائق القدس فقاموا في 18 نوفمبر 1991م بالاستيلاء على بعضها من مبنى المحكمة الشرعية في المدينة.
---------------------------
بقلم: د. خالد عزب

مقالات اخرى للكاتب

عن مستقبل الدوريات التاريخية العربية





اعلان