20 - 06 - 2024

مدخل إلى تهويد القدس (2 – 3)

مدخل إلى تهويد القدس (2 – 3)

إن التصور الإسرائيلي يطرح القدس وكأنها مدينة خالية من البشر والعمران. إحدى دور النشر الغربية عكست هذا التصور حين نشرت كتاب ديفيد روبرت (الأرض المقدسة). وديفيد روبرت هو رحّالة إسكتلندي رسم العديد من اللوحات لمصر وفلسطين بين عامي 1838 و1839 وسجّل مع هذه اللوحات انطباعاته عن الأماكن التي مرَّ بها. وإلى هذا الحد، الأمر ليس فيه ما يثير أي تساؤل. إلا أن دار النشر التي أعادت نشر اللوحات عام 1990م أرفقتها بسرد تاريخي للأب كروللي لا يمت لعلم الآثار بصلة؛ قدر ما يمت بصلة قوية إلى الرائج من روايات وخرافات العصور الوسطى، فعنده لا وجود للعرب وإنما هناك التسمية الخطأ التي يتعمد بعض الأوربيون استخدامها وهي (السرسيون) نسبة إلى السيدة سارة، ولا يرد ذكرهم إلا في سياق أنهم سبب معاناة المدينة المقدسة - القدس- تلك التي لا ترتفع معاناتها إلا مع سيطرة الصليبيين عليها!

ويستند وصف الأمكنة إلى مخيلة كروللي المستمدة من روايات التوراة؛ على الرغم من إثبات الدراسات الأثرية حديثًا شكوكًا واسعة حول صحة تلك الروايات؛ حتى أن العديد من علماء الآثار الغربيين بدأوا يصرفون النظر عن اعتماد التوراة كمرجع للأبحاث الأثرية في فلسطين لتناقض ما جاء بها مع المكتشفات الأثرية الحديثة.

تصور لوحات ديفيد روبرت مشاهد من خارج المدن ولا تصور الحياة داخلها، وغالبًا حين يصور البشر يصورهم في حالة استرخاء، وتظهر بلوحاته الأرض حول القدس على سبيل المثال وكأنها صحراء جرداء خالية من العمران والبشر. هنا تتقدم دار النشر لتقدم لعبة خبيثة لخدمة مقولة الأرض الخالية التي روّجت لها الصهيونية، بأن أرفقت مع كل لوحة من لوحات ديفيد صورة فوتوغرافية حديثة للموقع نفسه. وبالمقارنة يظهر الفرق الشاسع بين موقع يكاد يكون صحراويًا في ثلاثينيات القرن التاسع عشر وبين الموقع نفسه المحتشد بالعمران في أواخر القرن العشرين. توحي هذه المقارنة بالأيدي البيضاء للصهيونية على فلسطين بصفة عامة والقدس بصفة خاصة.

الحاضر الصهيوني

الكتاب بهذا المعنى صورة أعيدت صياغتها لتلائم أغراض الحاضر الصهيوني، كما يذكر الكاتب الفلسطيني محمد الأسعد، ليس لأن شروحات كروللي تشير إلى (أرض إسرائيل) قبل قيام دولة بهذا الاسم، فقط، بل لأن المنحنى كله يود أن يقول إن الأرض الخالية التي شاهدها روبرت لم تعد خالية. وربما لهذا السبب عمد ناشرو الكتاب إلى تصديره بكلمة لعمدة القدس المحتلة تيدي كوليك، وإلى وضع خرائط للأرض المقدسة تطابق بين الجغرافية الخيالية للتوراة والجغرافيا الطبيعية لفلسطين. هذا الكتاب يمثل واحدًا من عشرات الكتب التي يتم بها تغذية الوجدان الثقافي الغربي، وهو نموذج صاف لنظرة ثقافية غربية لا ترى في المشهد الثقافي العربي غير مسار التاريخ التوراتي.

الصورة هنا صورة قدس جديدة، رأى اليهود أن تشيع في العالم سواء من خلال الكتاب الذي يقدم مسار رحلة الحج التاريخية إلى مسيحيي العالم كما رآها رحالة في القرن 19، وكما رأتها دار النشر في القرن العشرين. هذه الصورة هي للقدس عاصمة إسرائيل الأبدية، التي سعى اليهود إلى تكريسها حتى أصبحنا نحن العرب نتقبل جانبا من هذه المقولات كحقيقة لا تقبل النقاش. فالقول بوجود قدسين شرقية وغربية، أشبه بالهراء، إذ لا توجد سوى قدس واحدة، هي المدينة القديمة وضواحيها، التي هي عاصمة فلسطين المحتلة. ومنشأ شيوع هذا الخطأ السياسيون ووسائل الإعلام، إذ كانت القدس حتى عام 1917، ومنذ ذلك التاريخ بدأت الهوية العربية للقدس في التغير خلال فترة الانتداب البريطاني الذي منحته عصبة الأمم لبريطانيا في عام 1922 على فلسطين، وترتب على ذلك زيادة هجرة اليهود لفلسطين، وبدأت ديموغرافية القدس في التغير، وتضاعف عدد اليهود فيها في الفترة من 1917 إلى 1948 ليقفز من ثلاثين ألفا إلى حوالي مائة ألف بنهاية فترة الانتداب. 

اغتصاب القدس

اغتصب اليهود القدس على مرحلتين في المرحلة الأولى عام 1948 استولوا على القدس الجديدة وضموا إليها المدن العربية المحيطة بها، كان يسكن هذه المدينة فلسطينيون عرب ويهود، وقد سكنت الأغلبية من أهالي القدس العرب في خمس عشرة ضاحية سكنية في القدس الجديدة وامتلكت ثلاثة أرباع أراضيها ومبانيها، وكانت المناطق العربية تفتقر إلى الحماية ولذا احتلت إسرائيل ثلاث عشر ضاحية منها وبذلك يكون من الخطأ أن نتصور أن اليهود في 1948 استولوا على الجزء الغربي اليهودي من المدينة بينما فرض العرب سيادتهم على الجزء العربي. يرى اليهود في القدس مدينة مقدسة بالنسبة لهم، وواقع التراث اليهودي ينفي ذلك، فمن المعروف أن أسفار موسى الخمس لم يرد بها أي ذكر للقدس كمدينة مقدسة لدى اليهود، ولم تذكر القدس سوى في أربعة أسفار سفري صموئيل الأول والثاني وسفري الملوك الأول والثاني، ومن الواضح أن استشهادات اليهود الحالية جاءت من سفري صموئيل. وأكد علماء الديانة اليهودية بأن هذين السفرين من تأليف النبي صموئيل نفسه والذي يعتبر آخر قضاة بني إسرائيل. ويوجد في السفرين ما يناقض فكرة كتابة صموئيل للسفرين المنسوبين إليه ففي الإصحاح 25 من سفر صموئيل الأول: (مات صموئيل فاجتمع جميع إسرائيل وندبوه ودفنوه في بيته) والمعروف أن قصة بناء القدس ذكرت في السفر الثاني، فإذا كان صموئيل قد مات قبل أن يكمل السفر الأول فالسؤال الآن من أكمل السفر الأول وكتب الثاني بأكمله؟ وإجابة السؤال هي أن السفرين إضافات لاحقة لخدمة الأغراض السياسية القومية لليهود، خاصة أن كتبهم المقدسة لعنت القدس كمدينة في مواضع عديدة.

تحريف النصوص

كان اليهود قبائل من البدو الرحل، وبالتالي لم يكن لديهم فكرة الاستقرار في مكان محدد وتشييد حضارة خاصة بهم فيه. ولم يعرفوا الاستقرار إلا عند دخولهم مصر، ولكن من الواضح أنهم احتفظوا بترابطهم القبلي في أثناء وجودهم في مصر، وعند خروجهم منها لم يخرجوا بمفردهم بل خرج معهم من آمن من المصريين بدعوة موسى عليه السلام، وخرجوا وهم محملين بالتأثيرات الحضارية المصرية، وأثبتت الاكتشافات الأثرية أن كتب اليهود تأثرت بشدة بالموروث القصصي والعقدي السابق لها سواء في مصر أو العراق.

هنا يجب أن نتوقف عند فكرة الهيكل لدى اليهود وهو بيت الإله ومكان العبادة الأساسي لديهم، فباعتراف اليهود البدو الرحل أنه لم يكن لديهم مكان عبادة مقدس ثابت منذ عصر موسى إلى عصر النبي سليمان عليه السلام. بل كانت لوحات الوصايا العشر توضع في تابوت كان يعرف باسم تابوت العهد، هذا التابوت خصصت له خيمة عرفت بخيمة الاجتماع، ترافق اليهود أينما رحلوا، فأين القداسة هنا لأي بيت أسس في القدس كما يرى اليهود. بل جاء تأسيس الهيكل ليكون المكان المفضل لوضع تابوت العهد وليكون بيتًا لرب اليهود نتيجة لتأثرهم بالحياة الحضرية في مدينة القدس. شيّد سليمان الهيكل على قطعة أرض غير معلومة في القدس، بل حينما شيد الهيكل الثاني لا يوجد دليل قاطع على تشييده في موضع الهيكل الأول، وتاريخ بناء الهيكل في القدس هو تاريخ تحول عبادة يسرائيل البدوية المتجولة إلى العبادة القربانية المركزية. وهنا يجب أن نلاحظ أن اليهود أثناء السبي البابلي صاغوا العديد من الثوابت التي يؤمنون بها اليوم كأرض الميعاد، وقدسية مكان الهيكل في محاولة منهم لمقاومة الذوبان في أرض المنفى في العراق.

أمناء جبل الهيكل

بل أن الهيكل تعرض للإهمال وصار موضع ازدراء من اليهود في مراحل تاريخية لاحقة. تعرضت القدس للهدم مرات عديدة في التاريخ مما يجعل من الصعب تحديد موضع الهيكل اليهودي بها. بل طرأ تغيير على العهد القديم في خلال فترة السبي البابلي يجعلنا نشك في كثير من المسلمات اليهودية اليوم. أثبتها عالم الآثار الأكادي فريدريك ديليتش من خلال سلسلة من المؤلفات حول بابل والكتاب المقدس، انتهى فيها إلى اعتماد العهد القديم إلى حد ما على العقائد البابلية.

تعد إعادة بناء الهيكل واحدة من أهم القضايا الخلافية بين اليهود الذين ينقسمون إلى صهاينة وغير صهاينة، فغير الصهاينة يعارضون فكرة العودة وبالتالي إعادة بناء الهيكل، أما الصهاينة فقضية إعادة بناء الهيكل قضية محورية لديهم والمتطرفون من الصهاينة يولون هذه القضية أولوية شديدة، بحيث جعلت المنظمات الصهيونية هدم الآثار الإسلامية الموجودة في هذا الموقع من أهم أهدافها.

وقد قامت عدة محاولات من جانب الجماعات الصهيونية تستهدف تفجير الأماكن المقدسة الإسلامية في القدس، أو حرقها، بل ضبطت محاولة لإلقاء قنبلة عليها من الجو، وهناك منظمة يهودية تسمى (أمناء جبل الهيكل) التي يمولها المليونير الأمريكي المسيحي الأصول تري رازنهوفر، جعلت بناء الهيكل الثالث هدفها الأساسي. وقد أسست مدرستان تلموديتان عاليتان بالقرب من حائط البراق لتدريب مئتي طالب على شعائر العبادة القربانية وهي الشعائر الخاصة بالهيكل. وإحدى هذه المدارس، معهد الهيكل (يشيفات هبايت)، وظيفتها الأساسية محاولة التعجيل ببناء الهيكل. وقد بدأت هذه المدرسة في إعداد أدوات العبادة القربانية التي يبلغ عددها 103، وضعت الأدوات التي تم الانتهاء منها في متحف. وقد عقد في سنة 1990 مؤتمر يضم اليهود الذين يعتقدون أنهم من نسل كهنة الهيكل. ويوجد في فندق الهيكل في القدس مجسم صغير للهيكل. وينوون أن يبنوا مجسمًا آخر أكبر حجمًا يتكلف مليون دولار يتم جمعها حاليًا من يهود العالم.

وقد قامت جماعة أمناء الهيكل بوضع حجر الأساس للهيكل الثالث في احتفال تحت إشراف رئيس الجماعة المدعو جرشوم سالمون. وقد حضر الاحتفال الذي جرى في منتصف شهر أكتوبر عام 1989، كاهن يرتدي ملابس كهنوتية خاصة مصنوعة من الكتان المغزول باليد من ستة خيوط مجدولة تم إعدادها في معهد الهيكل. وقد استخدموا في الاحتفال بعض الأواني الشعائرية، وبوق الشوفار، وأدوات موسيقية مثل الأوكورديون، أما حجر الأساس نفسه فحجمه متر مكعب، وقد قام حفاران يهوديان من القدس بإعداده دون استخدام أية أدوات حديدية (كما تتطلب الشعائر) وقد حاولوا الوصول بالحجر إلى ساحة حائط البراق ، ولكن الشرطة الإسرائيلية تصدت لهم فحمل الحجر إلى مخزن الحفارين وأودع فيه. وتتجه النية إلى زراعة حديقة حوله. ويساند جماعة أمناء جبل الهيكل بعض أعضاء المؤسسة الدينية في إسرائيل.
-----------------------------
بقلم: د. خالد عزب

الجزء الأول من مقال الكاتب

مدخل إلى تهويد القدس (1 – 3)

مقالات اخرى للكاتب

عن مستقبل الدوريات التاريخية العربية





اعلان