20 - 06 - 2024

حرب غزة 2023.. لماذا يعجز المجتمع الدولي عن إنهاء الحرب؟

حرب غزة 2023.. لماذا يعجز المجتمع الدولي عن إنهاء الحرب؟

انتهى عام 2023، لكن الحرب في غزة لم تنته بعد، وتتزايد احتمالات توسعها إقليمياً، بسبب تعنت قادة إسرائيل الذين يقاومون ضغوطاً خارجية وأمريكية، تطالبهم بتحديد أفق زمني لإنهاء تلك الحرب، ويرفضون أي صفقة لتبادل الأسرى تشترط وقف العمليات الحربية، مسبقاً أو كنتيجة للهدنة المؤقتة، رغم الضغوط الداخلية من عائلات المخطوفين ورغم ما تتكبده القوات الإسرائيلية من خسائر، وهو موقف لا يمكن تفسيره إلا في ضوء تقديرهم لحجم المكاسب التي يحققونها من خلال مواصلة الحرب ضد فصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة، وفي مقدمتها حركة حماس والجهاد الإسلامي. 

هم مستعدون فقط لإدخال بعض التعديلات على أهداف الحرب، خصوصاً تلك الأهداف التي تأكد لهم صعوبة، إن لم يكن استحالة تحقيقها في أي مدى زمني منظور. وفي مقدمة الأهداف التي جرى تعديلها، هدف القضاء على حماس وإخراجها من المعادلة أو تهجير عدد كبير من الفلسطينيين، والانتقال إلى أساليب جديدة في القتال تفرضها اعتبارات عملياتية على الأرض، أهمها الميزة العملياتية للمقاومة الفلسطينية في المدن، وصعوبة التعامل مع شبكة الأنفاق المعقدة في غزة، والتي تمنح المقاومة الفلسطينية قدرة على فتح جبهات للقتال في أي مكان يختاره المقاتلون الفلسطينيون لتحقيق مكاسب عسكرية. وعلى الرغم من حرص الولايات المتحدة على منع توسع الحرب، إلا أن امتناعها عن اتخاذ حاسم يفرض على قادة إسرائيل التراجع عن موقفهم المتعنت والذي يصيب المجتمع الدولي بحالة من العجز، يدفعها إلى الاستعداد لاحتمال توسع الحرب إقليمياً، وهو احتمال مرجح بشدة مع استمرار الحرب. فقد أشار تقرير لموقع "بوليتيكو" الأمريكي إلى أن مسؤولي إدارة الرئيس جو بايدن يعكفون على وضع خطط لمواجهة هذا الاحتمال المتزايد، إذا فشلت الجهود التي تبذلها الإدارة للحيلولة دون تصعيد الحرب.      

ليست غزة استثناء فيما يخص الحروب الدائرة الآن والتي يقف العالم عاجزاً عن وقفها، فهناك حرب في أوكرانيا وأخرى في السودان، وحرب لا تزال دائرة في سوريا وإن تراجعت حدتها. أيضاً، هناك العديد من الكوارث الإنسانية التي يشهدها العالم بسبب الحروب، لاسيما في العقد الأخير، لكن الكارثة الإنسانية في غزة فاقت كل هذه الكوارث من حيث حجم الدمار الذي لحق بالبنية التحتية الذي يجعل الحياة في القطاع مستحيلة، وأيضاً من حيث الانتهاكات التي ارتكبتها إسرائيل وتجاوزت كل حدود وضعها المجتمع الدولي على مدى عقود، أملاً في الوصول إلى عالم أكثر تحضراً، غير أن تلك الانتهاكات الإسرائيلية تجعله أكثر توحشاً. لقد قدمت الحرب في غزة والتي يعجز العالم عن وقفها، بياناً عملياً لحروب "إدارة التوحش"، مثلها مثل الحرب التي شنها التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية في كل من الموصل بالعراق والرقة وحلب في سوريا، رداً على توحش التنظيم ضد السكان. والسكان المدنيون هم الضحية الأولى لمثل هذه الحروب، ولإدارة التوحش على الجانبين، واللافت للنظر أنه بالرغم من هذه الكوارث الإنسانية أن المقاومة مستمرة بل وقادرة على الرد وإلحاق الأذى بالعدو، مما يفتح الباب لاستمرار المواجهات العسكرية لفترات طويلة على الأرجح، كي لا تنتهي الحرب على نحو يسمح للخصم أن يدعي تحقيق النصر. وتستمر معاناة البشر والكوارث الإنسانية، جراء استمرار العدوان العاجز عن إسكات المقاومة.

امتناع أم عجز

السؤال الرئيسي الذي ينبغي الانطلاق منه هو: هل نحن حقاً بصدد حالة من حالات عجز المجتمع الدولي عن التحرك لوقف الاعتداءات الممنهجة التي يمارسها الجيش الإسرائيلي ضد المدنيين في غزة، والتي تهدد بتقويض المنظومة القيمية للمجتمع الدولي الذي أظهر حزماً في مواجهة حروب أخرى في المنطقة، ويستسلم لإرادة شلة من المتطرفين الذي يقبضون على السلطة في إسرائيل، ويقف مكتوف اليدين وهو يري هذه العصبة وهي تقود مشروع دولتهم إلى كارثة محققة، قد تؤثر على المنطقة والعالم بأسره؟ والموقف الأكثر غرابة هو موقف الولايات المتحدة التي يعد امتناعها بإصرار عن اتخاذ حازم يضع حداً لجموح المتطرفين في إسرائيل أو السماح للمجتمع الدولي باتخاذ هذا الموقف ومنعها القوى المهيمنة على القرار الدولي من التدخل لوقف الحرب؟ 

إن من يتابع الجدل الدائر بين كبار المسؤولين في الإدارة الأمريكية وبين قادة إسرائيل سيلحظ وجود تعارض واضح، ومتزايد، بين رؤية المجتمع الدولي، والولايات المتحدة، الذي يرى أن هذه الحرب يجب أن تتوقف، أو أن يكون لها أفق زمني على الأقل، وبين رؤية قادة إسرائيل الذين يرفضون وضع جدول زمني لتوقف العمليات العسكرية ويصرون على استمرار هذه الحرب مبررين ذلك بالسعي للقضاء على حماس وفصائل المقاومة، والعمل على بلورة بديل فلسطيني قادر على إدارة القطاع يحظى بقبول إسرائيلي، وهو هدف مستحيل، على الأقل في المدى المنظور، ويقدرون أن تستمر هذه الحرب لشهور ويضعون شروطا ويقدمون على أفعال من شأنها أن تزيد حدة العداءات، التي تفتح الباب لمزيد من الحروب وأعمال العنف في المستقبل. ورغم هذا التعارض في الرؤى، تمارس واشنطن نفوذها في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ولتعطيل الآليات الأخرى في الأمم المتحدة، رغم إدراكها لخطورة الوضع. 

هناك تفسيرات عديدة لهذا الموقف الأمريكي الراهن، الذي تبدو فيه الإدارة الأمريكية عاجزة عن الرد في مواجهة تصريحات لمسؤولين وساسة إسرائيليين، يتحدون فيها إرادتها وأهدافها المعلنة في مسألة غزة، وكلها تفسيرات تحتاج إلى مزيد من التمحيص والمراجعة من أجل بناء موقف سياسي للتعامل مع هذا الوضع. 

التفسير الأول، يأتي في سياق الحديث عن العلاقة الخاصة بين الولايات المتحدة وإسرائيل وتأثير ما يعرف باللوبي الإسرائيلي وقدرته على التأثير في موقف الإدارة الأمريكية. وينتشر في العالم العربي تصور على مستوى النخب ومستوى الجمهور العالم يبالغ في تقدير النفوذ الذي يتمتع به هذا اللوبي في السياسية الأمريكية، وتتراوح هذه المبالغة بين فكرة المؤامرة اليهودية العالمية، والتي يفترض أنصارها وجود سيطرة يهودية على العالم عبر آليات إعلامية ومالية وسياسية، وبين من يركزون على اللوبي الإسرائيلي وآليات عمل الحركة الصهيونية في الولايات المتحدة وفي أوروبا وغيرها من مناطق العالم، بما في ذلك في البلدان العربية والإسلامية، وفي الحالتين يرى الفريقان أن اليهود وإسرائيل قادران على فرض إرادتهما وتصوراتهما على العالم وكسب الدعم والتأييد لكل سياساتهم وتجاوزاتهم. 

لكن هناك حالات محددة تظهر أن الإدارة الأمريكية قادرة على التأثير على مجريات الأمور وعلى السياسة الإسرائيلية وإعادة تشكيلها، وهي حالات مهمة، على ندرتها، لكونها تكشف عن القدرة الكامنة للولايات المتحدة في تغيير معادلة الصراع في المنطقة والتوصل إلى تسويات تحد من درجة العنف، نذكر منها حالتين على سبيل المثال لا الحصر. الحالة الأولى، حدثت في عام 1991، أثناء مؤتمر مدريد للسلام، رداً على موقف زعيم سياسي يميني متشدد هو اسحق شامير الرافض لمشاركة منظمة التحرير الفلسطينية وتقديم "تنازلات" ترى واشنطن أنها ضرورية لتغيير الموقف في الشرق الأوسط في مرحلة ما بعد حرب تحرير الكويت. ومارس الرئيس الجمهوري، جورج بوش الأب، كل أدوات الضغط على إسرائيل الأمر الذي أدى إلى انتخابات مبكرة أطاحت بشامير وبحزب الليكود وجاء بحزب العمل وبإسحق رابين إلى السلطة، مما فتح الباب أمام تحولات جذرية في الموقف الإسرائيلي أدت إلى اغتيال رابين على يد اليمين المتطرف. الحالة الثانية، هي امتناع الولايات المتحدة في آخر عهد الرئيس الديمقراطي السابق باراك أوباما، عن التصويت على قرار مجلس الأمن رقم 2334، في 23 ديسمبر 2016، الذي حث على وضع نهاية للمستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية، ونص على مطالبة إسرائيل بوقف الاستيطان في الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية، وعدم شرعية إنشاء إسرائيل للمستوطنات في الأرض المحتلة منذ عام 1967، والقرار الذي صدر بأغلبية 14 صوتاً هو أول قرار لمجلس الأمن متعلق بإسرائيل وفلسطين منذ عام 2008، وحدد الموقف الدولي من شرعية المستوطنات الإسرائيلية. وهناك موقف ثالث متعلق بمعارضة إسرائيل للاتفاق النووي الذي وقعته القوى الدولية مع إيران والذي إسرائيل إلى تعديله وهو ما تم في عهد إدارة الرئيس الجمهوري دونالد ترامب، مما تسبب في أزمة دولية وإقليمية لها آثار بعيدة المدى ولا تنفصل الحرب الراهنة في غزة والمواقف منها عن تداعيات هذا القرار.

وأثارت تلك المواقف الأمريكية ردود فعل متوترة من دوائر اليمين في إسرائيل، ومن أنصار إسرائيل في الكونجرس من الحزبين، إلا مثل هذه الحالات استدعت إعادة تقييم لمسألة العلاقة الخاصة بين الولايات المتحدة وإسرائيل وكذلك موقف القوى الغربية، تجريها إسرائيل، لأنهما يكشفان عن مدى هشاشة إسرائيل في مواجهة الضغوط الأمريكية والغربية من ناحية، ويكشفان من ناحية أخرى عن الإجراءات والسياسات التي تتخذها إسرائيل من أجل توسيع هامش استقلالية قراراتها فيما يخص المسائل التي تتصل بأمنها ووجودها، ويبقى السؤال عن مساحة هامش المناورة التي تتمتع بها الحكومة الإسرائيلية الحالية في مواجهة ضغوط الإدارة الأمريكية بحاجة إلى بحث ومراجعة، وكذلك دراسة آليات التأثير في القرار الأمريكي، وهذا يحتاج إلى مزيد من الدراسات والمقالات. لكن هذا الموقف يفتح الباب أمام الاحتمال الثاني الذي يفترض أن الولايات المتحدة تدير الصراع بما يحقق مصالحها على الصعيدين العالمي والإقليمي، بوصفها زعيمة للعالم الغربي الرأسمالي ومدافعة عن قيمه، وأن تتيح هامش استقلالية للتحرك الإسرائيلي، طالما أن تلك التحركات تحقق للولايات المتحدة مصالحها. ويفترض التفسير الثاني أن للولايات المتحدة مصلحة في استمرار الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين وبينها وبين قوى إقليمية أخرى، بما يضمن لها استمرار السيطرة الإقليمية وأنها تدير الصراع وفق هذا المنطق ولا تسعى لإيجاد تسوية نهائية لها بتحقيق أحد الطرفين انتصارا حاسماً. 

لا يتعلق الأمر هناك بفكرة أن إسرائيل هي الحليف الرئيسي للولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط، فهي لم تعد الحليف الاستراتيجي الوحيد لواشنطن في المنطقة مع ظهور حلفاء جدد قد يخدمون المصالح الأمريكية ويستجيبون لضغوط واشنطن أكثر من إسرائيل التي بدأت تتبلور لها مصالح خاصة تدفعها لتبني سياسات لا تتماشى دائما مع السياسات الأمريكية في المنطقة أو على الصعيد العالمي، وهناك شواهد كثيرة على ذلك، إنما الأمر يتعلق برؤية واشنطن للصراع في المنطقة في سياق رؤيتها العالمية وانسجام سياساتها في منطقة الشرق الأوسط أو تعارضها مع تلك الرؤية ومع الأولويات الأخرى لواشنطن وتوجهات سياستها الخارجية والعالمية.  

حرب غزة في سياقها العالمي

لا يمكن، إذاً، فهم استمرار الحرب الدائرة في غزة، ولا فهم عجز المجتمع الدولي عن وقفها، بمعزل عن فهم التناقضات الحاكمة للنظام العالمي الذي تقف الولايات المتحدة الآن على قمته. لقد بدأ تشكل هذا النظام مع صعود النظام الرأسمالي في الغرب منذ القرن السادس عشر، وتوسعه عالمياً عبر سلسلة من الحروب الاستعمارية التي شهدت أيضاً إبادة شبه كاملة لشعوب قاومت هذا التوسع، دون أن تمتلك الأدوات والمعرفة اللازمين لتحقيق النصر. ولابد من الاعتراف، بداية، بحقيقة أن العالم الذي نعيش فيه قد أصبح تدريجياً، رأسمالي الطابع في جوهره، حتى لو تمسك البعض بمفاهيم الخصوصية الثقافية، أو رفض البعض الآخر الهيمنة الأيديولوجية للمنظومة الرأسمالية. لابد من الإقرار، أيضاً، بأنه لا يمكن تغيير الواقع إلا بالاعتراف به وبالقوانين الحاكمة لحركة الجماعات البشرية. لكن على الرغم من هذه الهيمنة، لا تزال بعض الرؤى الثقافية قادرة على تحدي هذه المنظومة على الصعيد القيمي والأخلاقي، لكن أسلوب التحدي يختلف من مجتمع لآخر، ما بين الصدام والدخول في معركة خاسرة بسبب الفارق الهائل في معادلة القوة الشاملة، وبين الاشتباك والارتباط ومحاولة التغيير. 

السؤال الآن، أين يمكن وضع المواجهة العسكرية بين إسرائيل والشعب الفلسطيني بشكل عام، والمواجهة في غزة على وجه الخصوص، في هذا الإطار العالمي الشامل؟ وهل الحرب بالفعل أحد تجليات أزمة هذا النظام الذي يشكل الصراع المتزايد بين شعوب الجنوب المقهورة، مرتين، وبين المراكز المتحكمة في النظام الرأسمالي أحد ملامحه؟ وما هو موقف الشعوب في مجتمعات مراكز النظام؟ وهل ستستمر معاناة الشعب الفلسطيني ومعاناة شعوب أخرى في العالم في ظل هذا الوضع؟ وما هو تأثير النتائج التي قد تترتب على هذه الحرب على المنظومة الرأسمالية كلها، لاسيما أن الطرفين المتحكمين في قرار الحرب على المستوى المحلي يبديان درجة من الممانعة والرفض والتحدي للمجتمع الدولي ومعاييره ومبادئه، كما تجسدها مواثيق الأمم المتحدة وهيئاتها؟ هل يدرك قادة العالم تأثير مثل هذا التحدي على السلم والاستقرار العالميين؟ أم يعتقد هؤلاء أنهم قادرون على حسم المعركة بما يخدم استمرار هذه المنظومة واستمرار تحكمها، وعلى استيعاب العنف المضاد الذي قد يولد من رحم تلك المعاناة؟

لم تكشف الحرب الدائرة في غزة، وكذلك الحرب الأوكرانية والحرب في السودان أن العالم محكوم بازدواجية المعايير وحسب، وإنما تشير إلى أنه محكوم أيضاً بتعددية للمعايير يصعب الحديث معها عن وجود نظام دولي أو الحديث عن انتظام دول العالم لترتيبات محددة تفرضها القوى الرئيسية المؤثرة في العالم. 

هذه الحالة تعبر عن أزمة المنظومة الرأسمالية الراهنة والتي تواجه تحديات ناجمة عن عدم انسجام، الإرادات المؤثرة على الحوادث الدولية، وزاد من هذه الأزمة بروز لاعبين من غير الدول قادرين على ممارسة تأثير يفوق التأثير الذي تمارسه كثير من الدول، على النحو الذي يظهر مع الحركات والجماعات التي تنضوي في سياق ما يعرف بمحور المقاومة الذي يحظى بدعم ورعاية علنية من قبل إيران التي تدخل في صراع مع الولايات المتحدة وتتحدى سياساتها وسياسات حلفائها. تثير هذه الجماعات قلق الولايات المتحدة، بسبب تأثيرها في تشجيع المزيد من حركات التحرر والحركات المعارضة أيديولوجيا للولايات المتحدة وزيادة تأثيرها على الجمهور الأوسع، في ظل أزمة النظام الرأسمالي الذي أدت تناقضاته إلى احتدام الصراع الطبقي الذي تداخلت معه اعتبارات أيديولوجية ودينية وثقافية.

إن الأزمات التي شهدها العالم في الأعوام الخمسة الأخيرة، ومن بينها أزمات التغير المناخي، وظهور أوبئة وجوائح عالمية مثل جائحة تفشي فيروس كورونا ومرض كوفيد-19، وقابلية العالم للتأثر بحوادث صغيرة قد تؤدي إلى تغييرات هائلة، علاوة على التحديات الأخرى التي تواجهها الحكومات والشعوب، أصابت العالم بموجات من الارتباك التي تدفعه إلى ضرورة إجراء تغييرات جذرية تتصادم مع مصالح القوى المهيمنة، الأمر الذي يعطي لحركة التحرر العالمية الراهنة أبعاداً جديدة تدفع القوى المسيطرة على الدفع بقضايا أخرى لتأطير الصراع على نحو يحول دون تبلوره لتحديد ملامح المجابهة الأساسية بين القوى المطالبة بإعادة نظر جذرية في شكل التنظيم الاجتماعي الراهن وتحدي القيم السائدة، من خلال تأطير حربٍ مثل الحرب الدائرة في غزة في سياق الحرب العالمية على الإرهاب، مع السعي للتربح من الكوارث، وهو سمة باتت مميزة للحقبة الرأسمالية الراهنة التي باتت تعرف باسم رأسمالية الكوارث. لقد حاولت في مقالات سابقة تفسير كيف أثرت التحولات في البيئة العالمية والبيئة الإقليمية وكذلك البيئة الداخلية لهذه الحرب على مسارها، وبات من الضروري الآن مناقشة كيف سيؤثر التفاعل بين البيئات الثلاث على مستقبل هذه الحرب، وربما كان النقاش حول مستقبل الوضع في غزة مدخلا مناسباً لهذه المناقشة التي سنخصص لها المقال التالي.

إن عدم التوصل إلى تصور بديل للوضع في غزة والذي سيعيد غيابه على الأرجح إعادة إنتاج الوضع الذي يفتح الباب أمام احتمالات تجدد الحرب، أحد التجليات وربما أيضا أحد الأسباب المحتملة لعجز المجتمع الدولي عن وضع حد لهذه الحرب. وإذا ما ألقينا نظرة على الأوضاع في البيئات الثلاث قد نخلص إلى أننا أمام بيئات تعاني من أزمات شديدة وأن القائمين على شؤونها يخشون مواجهة لحظة الحقيقة عندما تنتهي تلك الحرب، فيما يسعى كل طرف على حل مشكلاته والتعامل مع أزماته على حساب الأطراف الأخرى. 

هناك طريق واحد قد يغير من المعادلة إلى حين لكنه لا يخلو أيضا من تعقيدات ومشكلات، وهو إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة والشروع في بدء ترتيبات الحل النهائي للمشكلة الفلسطينية وفق الآليات التي حددتها اتفاقيات أوسلو ووفق المبادئ التي تضمنتها خطة السلام العربية، إن الإصرار على الالتفاف على تلك الاستحقاقات هو السبب الرئيسي للوضع الراهن والضغط الحقيقي المطلوب ممارسته على النخبة السياسية في إسرائيل ليس فقط لإنهاء الحرب، وإنما لمواجهة التحدي التاريخي المتعلق بحل النزاع مع الفلسطينيين وحصول الشعب الفلسطيني على حقوقه الوطنية المشروعة وتطبيق قرارات الشرعية الدولية. وبدلا من الهروب للأمام عبر الحرب، علينا التفكير في الهروب للأمام عبر نمط جديد للعلاقات الإقليمية يفتح الباب لتسويات تاريخية كبرى قد تغير من وجه المنطقة وتعيد تشكيل علاقاتها مع العالم، وفي هذا تحد لو تعلمون عظيم.
--------------------------
بقلم: أشرف راضي

مقالات سابقة للكاتب عن حرب غزة

طوفان الأقصى.. علامة فارقة في الصراع مع إسرائيل

الحرب على غزة وتوسيع مبدأ تدفيع الثمن ليصبح عقيدة قتالية للجيش

وقفة مع "حرب غزة 2023" وسيناريوهات للمستقبل

حتى لو تم تدمير غزة لن تنتهي قضية فلسطين

تغيير البيئة الإقليمية للصراع | حرب غزة 2023، وإعادة ترتيب ضرورية لأوضاعنا الداخلية والإقليمية

حرب غزة 2023.. وتجديد الصهيونية | إسرائيل تنفذ عملية ممنهجة لتصفية القضية الفلسطينية

حرب غزة 2023.. حول التناقض الرئيسي والتناقضات الثانوية

حرب غزة 2023.. التفاعل المتسلسل الذي أوصلنا لهذا الوضع وكيف ننهيه

حرب غزة 2023.. في مواجهة الرسائل الخطيرة من قلب المعركة

حرب غزة 2023.. الحرب امتداد للسياسة إلا في غزة

حرب غزة 2023.. مفاهيم جديدة في الحرب من ميدان المعركة

حرب غزة 2023.. خيارات سعودية مصيرية

مصر والقضية الفلسطينية بعد حرب غزة: "توسيع الخيارات وهامش المناورة"

حرب غزة 2023.. إما أن تتوقف الحرب الآن أو تتوسع.. المنطقة والعالم في مواجهة الأزمة

     

          

مقالات اخرى للكاتب

حرب غزة 2023.. مستقبل غزة أم مستقبل فلسطين؟





اعلان