29 - 04 - 2024

عاجل سادس إلى سيادة الرئيس | عن غزة وأمن مصر القومي: متى تغيَّر المعلومات الاستراتيجيات؟

عاجل سادس إلى سيادة الرئيس | عن غزة وأمن مصر القومي: متى تغيَّر المعلومات الاستراتيجيات؟

أيّ متابع لأحاديث الرئيس وتعليقاته – على مدار السنوات الفائتة – يسهل عليه إدراك مدى اهتمامه و شغفه وولعه بالمعلومات والأرقام والبيانات. والمفهوم أن ما هو أهم من المعلومات في حد ذاتها هو تحليلها ، وهو إجراء لا بد من أن يكون مبنيا على التوثق منها ، والربط في ما بينها بصورة منطقية وخلاقة. وعندما يحدث ذلك ؛ تتبلور القيمة الحقيقية للمعلومات ؛ ألا وهي الاستفادة منها بالطريقة وفي الوقت المناسبين ؛ تأسيسا على تفسيرها تفسيرا سليما يعتمد على عوامل كثيرة ؛ في مقدمتها الإلمام بالحقائق والنظريات التي ترتبط بموضوع ما ، والمعرفة التاريخية به ؛ لتمثل المعلومات –  في نهاية المطاف – المنطلق الذي لا تشوبه أية نواقص لاتخاذ القرارات الصائبة. 

والرئيس المتمرس في مجال المعلومات ينطلق منها بالطبع كقاعدة للعمل واتخاذ القرار في الميدان الاستراتيجي والسياسي . وهو محق بالتأكيد ؛ خاصة إذا كان معنيا بتنفيذ مشروع ضخم يتعلق بمستقبل مصر ؛ في خضم بيئة صاخبة تتسم باللا يقين ، وتتفاعل فيها متغيرات عديدة حادة ومتشابكة ؛ مع ما ينطوي عليه هذا المشروع من تفاصيل لا حصر لها ؛ يفترض أن تتجه المعالجات الصحيحة لها بمصر إلى مساحة غير مسبوقة من القوة والمكانة. 

وهنا بالضبط – أعني محيط المعلومات – تكمن المشكلة التي قد يواجهها البعض في "فهم" الكثير من تعليقات الرئيس ، والإشارات التي تتضمنها أحاديثه عن القضية الفلسطينية – تحديدا ؛ مع الانتباه إلى أن "الفهم" الذي نعنيه هنا يتعلق بالأفكار المباشرة وغير المباشرة والبناءات اللغوية الكامنة والموازية في "الخطاب السياسي" للرئيس. 

***

معروفة ومتداولة هي الطرق التي يجري بها الحصول على المعلومات. وهي لا تستخدم فحسب في وضع الاستراتيجيات والخطط و اتخاذ القرارات ، بل تستخدم في صياغة "الخطاب السياسي" الذي يتوجه به الرئيس إلى الرأي العام ، وإلى المعنيين والمؤثرين في ما يخص قضية ما. فالخطاب السياسي يعد أداة مهمة ومؤثرة من الآليات التي يستخدمها القادة للتعريف بالقضايا التي يعملون عليها وشرحها ، ويبررون بها قراراتهم التي تصب في خدمة المواقف التي تعبر عن كيان عام جامع هو الدولة ، ويعبّدون بها الطريق أمام القبول العام بها. وهي مواقف تفعّلها استراتيجيات تنبني على اتجاهات غير مؤكدة ، ولهذا ؛ تبقى دائما – كموضوع تطبيقي – قابلة للمراجعة والتغيير.   

ومن المؤكد أن جميع المعلومات اللازمة للتعاطي مع قضية شعبنا الفلسطيني وتطوراتها الجارية هي في حوزة الرئيس ، ودائرة صنع واتخاذ القرار المحيطة به. والأكثر من ذلك أنه يمكن الزعم بأن القيادة المصرية لديها من المعلومات ما لا يملكه الكثيرون من المعنيين بهذه القضية ، وأعني بذلك معلومات فريدة لا يستطيع أحد الوصول إليها ؛ ببساطة ؛ لأنه لا وجود لها من الأساس ؛ فهي معلومات تصنع خصيصا لتلبية احتياجات القيادة وبطلب منها ، ومنها على سبيل المثال ؛ المعلومة "الاستراتيجية" الخاصة بحجم التمويل اللازم لإعادة إعمار قطاع غزة التي كشف عنها الرئيس مؤخرا . وسأذهب إلى ما هو أبعد من ذلك ؛ بالقول إن حجم الخسائر البشرية وغير البشرية التي تعرض لها جيش الاحتلال في غزة ؛ هي بالتأكيد متاحة للقيادة المصرية ، وعلى نحو قريب جدا من الواقع ، وإنها تفوق بكثير تقديرات المقاومة الفلسطينية لها ؛ ناهيكم عن الخسائر التي منيت بها دولة الاحتلال على مختلف المستويات الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية وغيرها ، بل إن القيادة المصرية تستشرف على نحو مؤكد ودقيق ما سوف يترتب على هذا الخسائر في المديين المتوسط و البعيد ، وتعرف عن المكاسب الهائلة التي أتت بها عملية السابع من أكتوبر للقضية الفلسطينية التي توقفت لسنوات طويلة عن تحصيل مكاسب تمضي بها قدما ؛ على طريق إقرار الحقوق المشروعة لشعبنا الفلسطيني ؛ وفي طليعتها إقامة دولته المستقلة على ترابه الوطني ؛ وعاصمتها القدس.             

لكل ما سبق ؛ يستوقف المتابعين الكثيرُ مما يقوله الرئيس عن هذه القضية ، والتطورات الجارية في قطاع غزة ؛ عند مقارنته بما هو حادث ومشاهد على أرض الواقع ، وآخره وصفه لما جرى في السابع من أكتوبر بـ "المغامرة" ، وحديثه المتكرر عن أن معبر رفح مفتوح طوال الوقت ؛ وهو المغلق بالقوة من الجانب الآخر للحدود المصرية مع القطاع ، وعن أن مصر تقدم الدعم للفلسطينيين في غزة ؛ ولكن ليس على النحو الكافي ؛ مثلما هو مفترض ، وعن التداعيات "الإنسانية" الهائلة للسلوك الإجرامي للاحتلال على أبناء شعبنا الفلسطيني ؛ مع علمنا بمدى تأثير فكرة "الإنسانية" على القرار والسلوك السياسي للقيادة المصرية ، وعن أن مصر لن تقبل بتصفية القضية الفلسطينية عبر ترحيل الفلسطينيين من أماكن تواجدهم في أرض فلسطين التاريخية ، ولن تذهب إلى مواجهة مع الكيان على خلفية ما يجري ؛ في حين أن ما هو مسكوت عنه في هذا التعليق يقول إن تفادي الحرب مع تل أبيب على خلفية ما يجري من أحداث ؛ هو قرين منعها من تهيئة الظروف الدافعة لتهجير - ترحيل الفلسطينيين ؛ بمعنى فعل كل ما يلزم لتثبيت  الفلسطينيين على الأرض ؛ خاصة أن دعم صمودهم الذي لا تراهن القيادة المصرية عليه إلى ما لا نهاية – يجعل الصدام العسكري بين القاهرة وتل أبيب المؤكد حال تحرك الفلسطينيين مهجرين عبر الحدود ؛ أمرا مستبعدا مع بقائهم على الأرض ، وعلى قيد الحياة ! 

ويحدث كل هذا في الوقت الذي تمتلك فيه القيادة المصرية – مثلما أسلفنا – كل المعلومات اللازمة للتعامل مع الموقف الذي لا يؤثر فحسب على حياة ومستقبل الفلسطينيين ، بل يلقى بأضرار فادحة استراتيجية واقتصادية وأمنية على الدولة المصرية . ويكفي أن نشير هنا إلى ما يجري عند باب المندب ، والعمل الذي تقوم به واشنطن على ساحل غزة تحت غطاء إنساني لإنشاء قاعدة عسكرية أمريكية / أطلسية – تحت مسمى رصيف بحري – على بعد كيلو مترات معدودة من الأرض المصرية ، وما تحدثه العمليات العسكرية و التدميرية لجيش الكيان من تأثيرات متنوعة في الداخل المصري ، والتهديد الذي يمثله نجاح الكيان في تنفيذ مخططه .  

سيختلف تقييم و تفسير الناس العاديين وغير العاديين لنتيجة "المقارنة" المشار إليها . إنما بالنسبة لمحلل سياسي تفاعل لسنوات طويلة مع القضية الفلسطينية وبكل الطرق ، ويعرف أن الرئيس والقيادة المصرية لديها كل ما يلزم من معلومات موثوقة حولها ، ومتأكد من أنها وفيّة تماما للعمل الموكولة به دستوريا للدفاع عن التراب الوطني ، وحماية مقتضيات أمن مصر القومي ومرتكزاته – يحتاج الأمر إلى طرح ما يسمى بالأسئلة الصحيحة ؛ وصولا إلى وجهة نظر متفحصة CRITICAL للاستراتيجية المتبعة في مواجهة ما يجري ؛ فهذا عملنا و واجبنا كمحللين. 

وترتيبا على ذلك ؛ يمكن القول إن واحدة من القواعد العامة في الممارسة الاستراتيجية هي أن العيب فيها لا يتعلق غالبا لا بنقص المعلومات ولا بدرجة الوثوق بها ولا بآليات تحليلها والربط في ما بينها ، ولكن العيب قد يقع في تفسيرها أو في طريقة استخدامها أو القرارات التي تبنى عليها. ويرتبط هذا على الأرجح بالكوابح التي يضعها الممارسون لاستخدام المعلومات ، والتي قد تجعلها قاصرة عن تحقيق الأهداف المطلوبة من الاستراتيجية. 

وفي الحالة التي نتناولها بالتحليل ؛ من المقطوع به أننا بصدد قوة معلوماتية كافية وفريدة ؛ لكنها تسخر لخدمة استراتيجية صبورة جدا ليست ملائمة للتعامل مع أزمة معقدة ومتطورة بسرعة هائلة ، وشديدة التأثير على الأمن القومي المصري ، وتتقاطع فيها أفعال استراتيجية معاكسة للمصلحة الوطنية . وليس هذا فحسب ؛ فالاستراتيجية المعتمدة تنظر باهتمام بالغ إلى جانب التكاليف على حساب الأرباح والمكاسب ؛ بمعنى أنها تميل إلى تحصيل المكاسب السهلة الناجمة عن أخطاء الخصوم ، والأخرى التي لا تتطلب المغامرة ، أو لا تقتضي دفع أثمان كبيرة لتحقيق الأهداف المطلوبة. في الوقت الذي تمكن فيه القوة المعلوماتية المتاحة للقيادة من اتباع استراتيجية جسورة وجريئة تحقق أهدافها كاملة ، وبتكاليف مقبولة ، وتجنبها تكبد خسائر فادحة ، أو يصعب تلافيها في المستقبل ؛ لكنها تصيب الأمن القومي بأضرار قد تكون غير قابلة للارتداد. ولقد  ثبت وتأكد بالوقائع والمشاهدات أن الاستراتيجية المعتمدة تبقى قاصرة عن تحقيق هدف جوهري صممت من أجله ؛ ضمن منظومة متكاملة من الأهداف التي تدافع عن الأمن القومي لمصر ؛ وهو توفير الحماية " الكاملة " الضرورية للفلسطينيين في غزة ؛ خاصة مع انكشاف الهدف الرئيسي لاستراتيجية الكيان المتمثل في تصفية القضية الفلسطينية ، وتفريغ قطاع غزة من سكانه، ولو كان ذلك عبر اختراق معاهدة السلام التي وقعتها مصر مع هذا الكيان.  

وعلى جانب آخر ، فإن هذه الاستراتيجية تعكس قلقا ليس له ما يبرره من فكرة الفوضى CHAOS ؛ إذ من المعلوم أن الفوضى كظاهرة ترتبط مفاهيميا بالحراك الجماهيري غير المنظم أو اللا منضبط الممتد على مساحة الدولة ومنظوماتها ، أو ما هو أدنى أو أكبر من ذلك ؛ حسب السياق. ولذلك ؛ نلاحظ أن الاستراتيجية المتنفذة تجري حمايتها بسياج واق لا يسمح بتداول الرأي حولها ، أو بالتعبير عن مواقف الجماهير تجاهها ؛ سواء بإعلان القبول بها وتأييدها ، أو برفضها ومناهضتها ، أو حتى باستخدام الرأي العام القابل أو الرافض لها أداة للتلويح ؛ وربما التهديد للأطراف التي تستهدفها هذه الاستراتيجية وتحاربها ؛ استنادا إلى أن النشاط الجماهيري هو عمل مفيد دائما ومساند للعمل السياسي الرسمي ، ويعطيه الشرعية اللازمة ، ويجنب السلطة بواعث الغضب الكامنة في أوساط الجماهير التي قد تقف مواقف معارضة للاستراتيجية المعنية بهذه القضية ، وقد تربط بينها و بين رفضها لاستراتيجيات تتعلق بقضايا أخرى ، وهي بواعث لا يمكن ضمان كبح جماحها على طول الخط. 

ومن الواضح تماما أن الإجماع في الداخل المصري حول الاستراتيجية الموضوعة ؛ خاصة لدى الأوساط العامة - أصابه شرخ كبير ؛ بالنظر إلى خصوصية القضية الفلسطينية لدى المصريين ، والطابع الإنساني المكثف لها الذي تعزز بممارسات الكيان المجرم ؛ على الرغم من الوجبات الدعائية اليومية المتسمة باللا مسئولية والسفاهة التي تضر بركائز و مقتضيات الأمن القومي المصري. 

إن الحراك الجماهيري والمدني لا يمكن بالمطلق أن يكون معادلا موضوعيا للفوضى ، وهو ليس آفة يتعين الوقاية منها . وأكبر دليل على صدقية هذه الحقيقة أن الرئيس لم يعبر مطلقا عن رضائه عن الأداء الإعلامي الذي يتعرض دائما إلى النقد والمراجعة من جانبه . والسبب – مثلما ألمحنا فيما سبق – هو الإخفاق في التعامل مع "الخطاب السياسي" للرئيس الذي هو ملغز دائما ؛ لحرصه على حماية المعلومات التي بحوزته ، وعلى التفسيرات التي وضعت لها ، والكيفية التي تحددت لاستخدامها والاستفادة منها. 

حتى الأدوات الأخرى التي يمكن للرئيس استخدامها لدعم اختياراته لاستراتيجيات جسورة منجزة ومتحدية ؛ مثل الأحزاب والنقابات ومنظمات العمل الأهلي والمحليات وغيرها ؛ تبقى قاصرة عن العمل أو معطلة أو غير مبادرة ، والأهم أنها تظل محطا للقلق من أن نشاطاتها يمكن أن تكون مثيرة للفوضى ، وهذه تتميز على العمل الجماهيري المفتوح ؛ بكونها قادرة على تحريك الجماهير البسيطة والنخب على حد سواء ، وبطريقة تقلص حدود القلق من حدوث فوضى ، أو وقوع خروجات عن السياق ؛ ما يحرم الرئيس من استخدام آليات الحراك والضغط الجماهيري لدعم استراتيجيات وسياسات مقدامة وفاعلة ومطلوبة ؛ سواء كان الحراك عفويا حرا مبادرا أو مخططا وموجها ؛ على غرار ما حدث في بداية الأحداث ؛ عندما سُمح للجماهير بالتظاهر دعما لغزة عقب عملية السابع من أكتوبر ، وهي تجربة كان يجب أن تستمر ويتصحح مسارها و أن تتطور لا أن تصادر ، ولو حدث ذلك لكانت اليوم بمثابة حافز وداعم للرئيس يمكنه الاعتماد عليه لتبني استراتيجية أكثر حسما في مواجهة الكيان ، ولكانت جنبت مصر الكثير من تبعات الاستراتيجية المعتمدة ؛ مع الانتباه إلى القاعدة التي تقول إن مسائل الأمن القومي لا يجوز أن تتباين فيها مصلحة الدولة ومواطنيها. 

و القيادة المصرية الغاضبة لغضب الشعب المصري الصامد في مواجهة صعوبات اقتصادية ليست بالهينة ؛ تدرك جيدا أنها – أي هذه الصعوبات – لن تثنيه بالطبع عن الالتحاق بأية أعمال تقررها لمواجهة الخطر الصهيوني ، والتهديد باستهداف رفح ، وعرقلة وصول المتطلبات الحياتية الحيوية لأبناء شعبنا الفلسطيني ؛ كطريق لتنفيذ مخطط التهجير ، والتعدي على الأرض المصرية ، وتصفية القضية الفلسطينية . 

***

هل انتهى الوقت الذي يمكن فيه تصحيح الأوضاع وقلب النتائج وعكسها ؟ لا أعتقد ! والقيادة المصرية الواعية التي يتعين عليها الاستعداد والعمل من أجل استثمار "مغامرة" المقاومة الفلسطينية التي لن تتكرر ؛ يجب أن تستخدم الحراك الشعبي للضغط ، ولتنفيذ استراتيجية فيها قدر من المخاطرة المحسوبة تتطلع إليها الجماهير ، وتخدم مشروع الرئيس الكبير لمصر. 

وفي السياق ؛ يتحتم أن تتوقف الوصفة التي يقدمها الإعلام للجماهير على غرار وصفات الطهي التي تزيد إحباطهم ! ويمكنها أن تثير حقا الفوضى . وهي تنبني للأسف على تعليقات للرئيس يساء فهمها أو يتحير المعنيون في صنع معالجات إعلامية حولها . وهي وصفة تقول بمطالبة الفلسطينيين بالتمسك بالأرض وعدم اختراق الحدود المصرية ؛ مع حرمانهم عبر الاحتلال المجرم من أسباب الحياة ، وتعرضهم للقصف والتقتيل بلا هوادة ، وتقدم دعاوى استعلائية تتغافل عن مسئولية مصر ومصالحها المؤكدة في حماية غزة وسكانها و مناصرة قضية شعبنا الفلسطيني ؛ من عينة أن ثمانين بالمئة من المساعدات التي تدخل غزة هي مصرية ؛ وأنها تمثل الدعم الممكن تقديمه ، وإن مصر تبني مخيمات لإيواء الفلسطينيين ، وتسهم في إسقاط المساعدات الإغاثية لهم عن طريق الجو ؛ ناهيكم عن مراهنات المعلقين على الانقسام الداخلي في الكيان أو خلافاته مع الراعي الأميركي كأوراق حاسمة لإنقاذ الفلسطينيين ، والتخويف من احتمالات خوض حرب مع الكيان هي واردة ومحتملة دائما وأيّا كانت الظروف ؛ لأن التهديد المتمثل من جانب دولة أخرى بدفع أعداد هائلة من الناس عبر الحدود إلى أراضيها قسرا ؛ هو إخلال فجّ بأمنها القومي ، واعتداء سافر لا يمكن التغاضي عنه ، ويستوجب استخدام الوسائل العسكرية ؛ ما لم تنجح الوسائل الأخرى في منعه وتطويقه . و هذه كلها مقولات و دعاوى لا وجود لها في سياق "الخطاب السياسي" للرئيس ؛ عندما يفهم على النحو الصحيح ، ولا تنتمي إلى استراتيجيته المعتمدة ؛ وإنْ كانت صبورة وحذرة ، وهي تدعم الأهداف الاستراتيجية للكيان المهزوم بغير تقصّد ، وفي طليعتها تصفية القضية الفلسطينية.  

إن ما حدث في السابع من أكتوبر لا مثيل له في تاريخ الصراع العربي الصهيوني ، ويصعب تكراره ، والتطورات التي تأسست عليه هي غير مسبوقة ، ولايجوز تفويت فرصة استثمارها ؛ علما بأن خروج هذا الكيان المأزوم من مأزقه الراهن ؛ بدون أن يدفع فاتورة إجرامه المتطاول على أبناء شعبنا العربي في كل مكان ؛ على مدار عقود طويلة – تؤدي حتما إلى مزيد من المعاناة والانكسار في واقعنا العربي ، وبأن الامتناع عن تحدي هذا الكيان ، يشكل خطرا داهما على السياسات والتوازنات الدولية والإقليمية في المستقبل القريب ؛ يكمن في إخضاع الكل لإرادته ومشغليه. 

لقد جاءتنا عملية السابع من أكتوبر بفرصة استراتيجية لا ينبغي تفويتها ، وهي تسمح بمواجهة الإجراءات الإجرامية التي يقوم بها الكيان المترهل وتجاوزها إلى آفاق بعيدة ؛ يتصدرها الوصول إلى اعتراف دولي بدولة فلسطينية كاملة السيادة تقوم إلى جانب الدولة العبرية ، وإنهاء الحصار المضروب على قطاع غزة منذ نحو سبعة عشر عاما ، وهو أمر يتأتي بالأساس عن طريق منع أية قيود على التواصل البري بين مصر والقطاع ، وإعلان ليس فيه أي التباس عن رفض مصر خطط إنشاء رصيف بحري على ساحل غزة  ؛ يعزل القطاع عنها تماما ، ويمكّن من ترحيل سكانه تحت دعاوى إنسانية ، وهي إجراءات يمكن أن يمثل قرار مجلس الأمن الدولي الأخير الرقم 2728 غطاء شرعيا وقانونيا لها ؛ خاصة مع التسليم بأن عدم اعتراض الولايات المتحدة الأمريكية عليه يعني أنها تراجعت عن سياستها المنهجية بدعم العدوان الغاشم للكيان على شعبنا في قطاع غزة ، وهو عدوان يسمح الوصول به إلى منتهاه – حسب الاستراتيجية المعتمدة من الكيان – بالانتقال إلى المرحلة التالية منها التي تستهدف شبه جزيرة سيناء والحجاز. وهذه الإجراءات وغيرها ممكنة وواجبة التنفيذ عبر موقف عربي موحد ضاغط بأقصى قدر ممكن من القوة على الكيان ؛ وصفنا في مقالات سابقة طبيعته وعناصره الجوهرية المفترضة ؛ حسب تصورنا.  

إن استراتيجية مصر بالذات في مواجهة ما يجري يجب أن تكون استراتيجية فريدة وجسورة ؛ لأنها الطرف الأكثر ارتباطا بالقضية وتطوراتها وتداعياتها . ولا شك في أن المؤسسة العسكرية المصرية – حتى في ظل المشكلات التي تواجهها الدولة المصرية ، وربما بسببها – تبقى مستعدة للذهاب إلى أبعد مدى في تحدي الرغبة الإسرائيلية في السيطرة على ممر صلاح الدين ، وإغلاق معبر رفح عمليا ، وإنشاء رصيف بحري يطبق الحصار على القطاع ويعزله تماما ؛ خاصة مع إدراكها لحقيقة الارتباط بين هذه الرغبة ومخطط تهجير الفلسطينيين في القطاع ، والمشروعات المتعلقة بتهيئة وتفعيل مسارات بديلة للنقل والإمداد ؛ تنهي القيمة الآستراتيجية لقناة السويس ، وتعصف بركيزة أساسية من ركائز الأمن القومي المصري.
---------------------------------
بقلم– عبد المجيد إبراهيم 
[email protected]  

 

مقالات اخرى للكاتب

يقذفون البطاطس الساخنة باتجاه مصر! والشعب يريد حماية غزة وأهلها





اعلان