26 - 06 - 2024

نحن أمام "تكوين" كل فيه يغني على ليلاه

نحن أمام

لا أعلم إلى أي شط ستتجه السفينة، وعلى أي ميناء سترسو؛ فالكنيسة المصرية دخلت المشهد، ومن قبلها الأزهر الشريف، والذي كان دخوله للمعادلة بمثابة لوغاريتم رياضي أو جملة لا محل لها من الإعراب؛ فهو أكبر وأثقل وأعمق من هذا بكثير؛ حتى الكنيسة المصرية بدت كنغمة نشاز في صراع لا ناقة لها فيه ولا جمل؛ فسر البعض هذا الموقف على أنه محاباة ومجاملة؛ بينما رآه البعض تأكيدا على الوحدة الوطنية وترسيخا لدعائم الاستقرار المجتمعي.

ولكن مع الوقت ظهر تساؤل طرحه البعض ماذا لو ناقشت "تكوين" قضايا تتعلق بالمسيحية ما هو رد فعل الأزهر؟ ولا تقل لي: سيقف مدافعا عنها؛ لأن لسان حال العقل الجمعي: بأمارة إيه؟ أما عن رد فعل الكنيسة في حال قيام "تكوين" بالمساس بعقيدتها سيكون كالبركان، ولا تقل لي: عادي؛ فالكنيسة لديها سعة صدر؛ لأن العكس هو الصحيح، وقبل أن تتهمني بالتجني، والمبالغة سأدعوك لتتذكر معي غلاف مجلة روز اليوسف، والذي تم تعديله بسبب اعتراض الكنيسة؛ فمابالك لو قام "تكوين" بطرح ثوابت المسيحية للنقاش؟! بلاش دي؛ ماذا  لو قامت "تكوين" بمناقشة أفكار "شهود يهوه" هل ستدافع الكنيسة عن "شهود يهوه" أم ستقف في صف "تكوين"؟ بالطبع ستقف في صف "تكوين"؛ لأن كل يغني على ليلاه!، وبنفس المنطق والقياس اعترض الأزهر على "تكوين" لأنها تناقش قضايا تتعلق بالإسلام ليس أكثر ولا أقل.

 ودعونا الآن نوسع دائرة التساؤلات؛ ماذا لو ناقش "تكوين" قضايا تتعلق بأديان آخرى غير معترف بها؟ هل ستحدث مثل هذه الضجة؟ وقبل ان ترد وتقول لي: الأمر مختلف وهذه ديانات وملل غير صحيحة؛ دعني أوضح لك أن المباديء لا تتجزأ، وأن المُقدَس يظل مقدسا في نظر صاحبه بغض النظر عن رأي باقي الأطراف الآخرى.

أعتقد أننى أحلم لاننا أصلا لا نعترف بالآخر من أساسه، وبالتالي ما أن أعُلن عن إنشاء مركز "تكوين" بقيادة الكاتب الصحفي اللامع إبراهيم عيسى، وانقلب "الفيس بوك" بل وكافة وسائل السوشيال ميديا رأسا على عقب؛ فللرجل رصيد غير محمود عند الكثيرين لأسباب كثيرة، ولعل تجربة جريدة "المقال"، وهي الأبرز في السنوات الأخيرة كانت بمثابة شهادة وفاة علاقته بالكثيرين؛ فهي القشة التي قصمت ظهر البعير، وباعدت بينه وبين فريق "الشعب المتدين بطبعه" أميالا بعد أن كان البعد خطوات، ورغم ذلك مضى "عيسى" في طريقه المحفوف بالمخاطر عن طريق البرامج التنويرية في نظر البعض، والعدائية في نظر البعض الآخر، والتي تشفي غليل فريق ثالث "كلنا عارفينه"، (واللي على راسه بطحه يحسس عليها). 

ضم "تكوين" المفكر السوري الإشكالي فراس السواح، والذي ينطبق عليه رد الشاعر واللغوي البارع فاروق شوشة عنما سُئل عن الفيسلوف العبقري زكي نجيب محمود: اهتم بالكليات فلن يصل لرجل الشارع. وبالفعل لن يصل "السواح" لرجل الشارع البسيط، والذي وقف في يوم من الأيام يسأل أستاذ الجيل وأستاذ طه حسين؛ أحمد لطفي السيد: هو أنت ديموقراطي؛ فرد "السيد" في تلقائية" ايوه؛ فصرخ الرجل: كافر؛ هكذا حُسمت المعركة الانتخابية بين أحمد لطفي السيد ومنافسه؛ الذي أقنع البسطاء بان الديمواقراطية كفر!. 

ما سردته هو الوصف الدقيق للفجوة الكبيرة بين المثقفين، ورجل الشارع؛ فمابالك بالفجوة التي ستكون بين رجل يتحدث في الأديان، وبين عموم الناس غير المؤهلة لذلك؟!. يضم "تكوين" المفكر والكاتب المثير للجدل د.يوسف زيدان، والباحث الجريء إسلام البحيري، وهذا الاسم تحديدا عليه الكثير من علامات الاستفهام واللغط عند فريق الداعية البارز د.عبد الله رشدي، والذي ظهر في المشهد رافضا  "تكوين" ظهرت فيه الكاتبة فاطمة ناعوت صاحبة الرصيد الكبير عند المسيحيين، وهو سبب كاف لرفضها ورفض "تكوين".

 الغريب بالنسبة لي ظهور قس إنجيلي في الصورة المنتشرة على وسائل السوشيال ميديا؛ لم استغرب ان يمر الموقف مرور الكرام؛ فانشغال الناس بالبيرة وبسلوكيات الأعضاء، وبحلاوة الأقدام كان أهم من القس الذي لن (يقدم ولا يأخر)؛ دعونا من كل هذا، ولنسأل هذه القس: لو كان "تكوين" هدفه التنوير؛ فما علاقتكم بالتنوير؟ بالبلدي كده هو من امتى الكنيسة هدفها التنوير؟، واشمعنى التنوير بيظهر عندما يكون الأمر متعلقا بالإسلام؟ ثم لماذا كان القس إنجيليا؟ هل لأنه الوحيد الذي وافق على الحضور؟ دعنا من كل هذا، ولنسأل أنفسنا: هل قام "تكوين" بتوجيه الدعوة للكنيسة الأرثوذكسية والكاثوليكية بشكل رسمي ورفضوا؟ أم أن "تكوين" يعرف الإجابة مسبقا فأخدها من قصيرها ودعا اللى عارف انه هيجي؟!، وهل القس الإنجيلي الذي حضر يمثل نفسه أم يمثل الكنيسة الإنجيلية؟ وهل ظهور الأنبا أرميا في المشهد بمثابة رمانة ميزان أو رد على الكنيسة الإنجيلية أو مجاملة للأزهر أو توازنا أو (بنطا على قفا الجميع)؟ كلها أسئلة مشروعة تحتاج إلى إجابة، وكان موقف الأنبا أرميا بمثابة إجابة تشبه الإجابة التي صرحت بها "ناعوت": زجاجة البيرة لا تخصنا؛ جاء هذا التصريح بعد الهجوم الشرس الذي شنه رجل الشارع عندما شاهد صورة "تكوين" تحتوي على زجاجة بيرة؛ ربما أتفهم غيرة رجال الشارع على دينه؛ لكني لا أتفهم قيامه بالسب واللعن؛ كما لا أتفهم قيامه بأخذ شاي وإكراميه وقيامه بالتحرش أو بالموافقة الضمنية على انتهاك المرأة أو بالانتهاك عموما؛ فكيف لرجل يسب ويلعن ويدلس يكتب على الفيس بوك (البيرة حرام) على اعتبار اللى بيعمله حلال؟!  

وما بين الحلال والحرام، والإنكار والمجاهرة تجرع "التكوين" مرارة وقسوة دلالة زجاجة الجعة؛ فلو كانت الصورة مقصودة فهذا سوء تقدير، ولو كانت سهوا؛ فكيف يؤتمن "التكوين" على تنوير عقول، وهو غافل عن "تكوين" صورة؟، ولو كانت صورة الزجاجة مدسوسة؛ فعلى "تكوين" معرفة أنهم على خط النار؛ فما بين الخمرة حرام، والتشكيك في ثوابت الإسلام، وإنكار الإسراء والمعراج، والدعوة للألحاد وتضامن الكنيسة المصرية؛ تنوعت المواقف، والتهم الموجهة لـ"تكوين" والذي أغضب مثقفي مصر بعد أن انتشر مقطع صغير جدا مقتطع من سياقه لـ"زيدان" وهو يسأل "السواح" أيها أهم أنت أم طه حسين؛ فيرد "السواح" أنا وأنت أهم، وقامت قيامة الفيس بوك خاصة وأن "زيدان" له رصيد غير جيد عند المثقفين؛ فكان الهجوم شديد الحدة؛ للدرجة التي دفعت "زيدان" لعمل مداخلة هاتفية مع الإعلامية عزة مصطفى يشرح فيها ما حدث، ويقول انها كانت مزحة، وأنا أصدقه؛ لاني أشعر ان كل شيء كان مقصودا؛ فكأنه بالفعل مزحة، ولو سألتني ما هي المزحة سأقول لك: "كل لبيب بالإشارة يفهم". 

"تكوين" بمثابة إلقاء حجر في الماء الراكد، وأنا هنا لا أقصد ان قيام "تكوين" بمناقشة أمور تتعلق بالأسلام بمثابة إلقاء حجر في الماء الراكد؛ أنا أفكر فيما هو أبعد؛ أنا أفكر في جوهر الحرية نفسه؛ أنا أفكر في قدرة المجتمع على استيعاب الرأي والرأي الآخر؛ أنا أرفض الازدواجية، وأقف ضد كل من يغني على ليلاه؛ فهل نحن نريد غلق  "تكوين" لأننا نكره أعضاء "تكوين" فلو تبدل الأعضاء سنرحب بـ"تكوين"؟  أم أننا نكره الفكرة من أساسها ونكره الحرية في عمومها، ونكره التفكير النقدي في جوهره؟ لو كان الأمر كذلك؛ فنحن نكره أنفسنا قبل أي شيء؛ نحن يا صديقي بصريح العبارة كل منا يغني على ليلاه.

مقالات اخرى للكاتب

نحن أمام





اعلان