27 - 10 - 2024

إرث صناعي ضاع بين أيدي من خانوا الأمانة

إرث صناعي ضاع بين أيدي من خانوا الأمانة

مصر التي أسسها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر لم تكن مجرد دولة تسعى لتحقيق طموحات اقتصادية، بل كانت تحاول بناء قاعدة صناعية قوية تؤسس لاستقلال وطني حقيقي، وتضع البلاد في مكانة متقدمة على الساحة العالمية. من خلال بناء أكثر من 2200 شركة قطاع عام، وشركات مساهمة مصرية بنسبة 100%، نجح عبد الناصر في إرساء دعائم اقتصاد متين. وقد كان ذلك الإنجاز الاقتصادي الضخم سببًا في رفع مكانة مصر على مستوى الوطن العربي والقارة الإفريقية، وعزز اقتصادها الوطني ليصبح قادرًا على مواجهة التحديات وتحمل الأزمات.

الشركات الصناعية: صمام أمان للاقتصاد المصري

هذه الشركات التي أنشأها عبد الناصر كانت تعتبر عصب الاقتصاد المصري، حيث لم تكن مجرد مشروعات إنتاجية فحسب، بل كانت جزءًا من استراتيجية شاملة لتحقيق الاكتفاء الذاتي، والابتعاد عن الاعتماد على القوى الخارجية. في ذلك الوقت، كانت مصر تسير بخطى ثابتة نحو بناء اقتصاد مستقل يعتمد على ذاته، وكانت تلك الشركات هي صواريخ التقدم التي يمكن أن تحقق نهضة صناعية حقيقية.

الشركات الصناعية كانت متنوعة في طبيعتها؛ بعضها زراعي، وبعضها صناعي، والبعض الآخر يتعلق بالنقل والتعدين والطاقة. ومن أبرز الأمثلة على هذه الشركات "شركة النصر للسيارات"، و"شركة الحديد والصلب"، و"شركة مصر للطيران"، و"شركة النيل للسكر". لقد ساهمت هذه الشركات في تعزيز الخزينة الوطنية ورفع مستويات الإنتاج المحلي، فضلاً عن تصدير منتجات مصرية للعالم الخارجي.

أثناء حرب أكتوبر 1973، لعبت هذه الشركات دورًا محوريًا في دعم الجيش المصري في معركته ضد العدو الصهيوني. لم يكن هناك تفرقة بين الصناعات العسكرية والمدنية في تلك الفترة؛ إذ كانت العديد من الشركات المدنية مثل "شركة حلوان للصناعات الهندسية" و"شركة النصر للحديد والصلب" تُسهم في إنتاج المعدات والذخائر الضرورية للجيش. كانت هذه الشركات قادرة على تلبية احتياجات مصر العسكرية والمدنية على حد سواء، مما جعلها ركيزة أساسية في الاقتصاد والمجتمع المصري.

التدمير والخصخصة: إرث ضاع

لكن ما حدث بعد حقبة عبد الناصر كان خيانة لهذا الإرث العظيم. منذ عهد حسني مبارك، وحتى اليوم في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي، بدأت سياسة الخصخصة التي أدت إلى تدمير هذا الإرث الصناعي الكبير. فقد تم بيع الشركات الوطنية واحدة تلو الأخرى، بحجج واهية، مثل تحسين الكفاءة أو جذب الاستثمارات الأجنبية. لكن الواقع كان أن بيع هذه الشركات لم يكن لخدمة الاقتصاد الوطني، بل لخدمة مصالح ضيقة لفئة قليلة من رجال الأعمال والسياسيين المتنفذين.

الخصخصة لم تكن سوى غطاء لبيع مقدرات الدولة. تم بيع الشركات التي كانت تشكل عصب الاقتصاد المصري بأرقام زهيدة لا تعكس قيمتها الحقيقية، مما أضاع على الدولة وشعبها مليارات الجنيهات. وفي نفس الوقت، بدأت تتراجع قدرة مصر على تحقيق الاكتفاء الذاتي، وتحوّلت إلى دولة مستوردة، تعتمد بشكل كبير على الاقتصاد العالمي وأسعار السوق الدولية.

الديون والقروض: مسار نحو الانهيار

لم يقتصر الأمر على تدمير تلك الشركات الصناعية الكبرى، بل تجاوز ذلك إلى اتخاذ خطوات خطيرة جعلت مصر ترزح تحت وطأة الديون الخارجية. فقد لجأت الحكومة المصرية إلى الاقتراض المكثف من المؤسسات الدولية، وعلى رأسها صندوق النقد الدولي، حيث بلغ حجم الديون المستحقة حوالي 180 مليار دولار. هذه القروض لم تؤد إلى تحسين الوضع الاقتصادي أو رفع كفاءة الشركات، بل كانت تُستخدم لسد العجز في الموازنة ودفع فوائد الديون السابقة، مما أغرق البلاد في دائرة مفرغة من الاستدانة.

انهيار قيمة الجنيه المصري

ومن جراء هذه السياسات الاقتصادية الفاشلة، تعرض الجنيه المصري لانهيار كبير في قيمته، حتى بات اليوم لا يساوي شيئا مقابل الدولار

خمسين جنية مصرى مقابل واحد دولار مريكي. وقد أدى هذا الانخفاض الحاد في قيمة العملة الوطنية إلى ارتفاع تكاليف المعيشة، وتفاقم الأزمات الاجتماعية والاقتصادية التي يواجهها المواطن المصري. الغريب في الأمر أن مصر كانت تسير نحو التصنيع والاستقلال الاقتصادي في عهد عبد الناصر، لكن اليوم نراها تتراجع للخلف، وكأن هناك من يعمل بجهد لبيع مصر قطعة قطعة.

بيع الأراضي والشركات: مؤامرة مستمرة

مع استمرار سياسات الخصخصة، لم يتوقف الأمر عند بيع الشركات الصناعية الكبرى، بل اتسعت لتشمل بيع الأراضي والممتلكات العامة، وكأن الحكومة لا تسعى إلا لتفريغ البلاد من مواردها. فبعدما كانت مصر تمتلك شركات ومصانع تدعم الاقتصاد الوطني وتوفر فرص العمل لملايين العمال، أصبحت البلاد الآن تعتمد على الاستيراد في تلبية معظم احتياجاتها الأساسية. أصبحت السياسات الاقتصادية تميل إلى بيع الأصول الوطنية، وليس بناء اقتصاد حقيقي يساهم في رفاهية المواطن.

أين ذهبت أرباح هذه الشركات؟

السؤال الذي يطرح نفسه هو: من الذي يستفيد من بيع هذه الشركات والممتلكات الوطنية؟ هل يعود الربح إلى الدولة والشعب؟ بالطبع لا. بل إن الأرباح تذهب إلى رجال الأعمال الذين يجنون ثروات طائلة على حساب مستقبل مصر وشعبها. هؤلاء لا يهتمون إلا بمصالحهم الشخصية، ويتركون المواطن المصري يرزح تحت وطأة الفقر والبطالة.

الإرث الضائع: تدمير مستقبل الأجيال القادمة

الشركات التي أسسها عبد الناصر لم تكن مجرد مؤسسات اقتصادية، بل كانت رمزًا للسيادة والاستقلال. وعندما تم بيعها، تم بيع جزء من هوية مصر ومستقبل أجيالها القادمة. أصبحنا نستورد ما كان يُنتج في مصر، وأصبح الاقتصاد يعتمد بشكل كبير على القروض الأجنبية التي تزيد من عبء الدين العام.

لقد فقدت مصر قوتها الصناعية التي كانت تمثل حجر الزاوية في اقتصادها. وأصبح العمال الذين كانوا يعملون في تلك الشركات ضحايا للسياسات الاقتصادية الخاطئة، حيث باتت البطالة سيفًا مسلطًا على رقابهم. كما أن القطاع الزراعي لم يسلم من هذا التدمير الممنهج، حيث تحول من مصدر للاكتفاء الذاتي إلى تابع للأسواق العالمية، يعتمد على الاستيراد لسد احتياجات البلاد الغذائية.

الفساد والتواطؤ: من المسؤول؟

أين هم المسؤولون عن هذا التدهور؟ من هم الذين قادوا مصر إلى هذا المنحدر الخطير؟ لقد كان هناك تواطؤ واضح من قِبل المسؤولين الذين تبنوا سياسات الخصخصة، وقاموا ببيع ممتلكات الشعب بدون أي محاسبة. يجب أن يكون هناك تحقيقات ومحاسبة لكل من خان الأمانة وأضاع هذا الإرث.

نداء لاستعادة مصر الحقيقية

نحن في "المجلس القومي للعمال والفلاحين تحت التأسيس" نطالب بضرورة وقف هذه السياسات الاقتصادية الخاطئة، واستعادة الشركات والممتلكات التي تم بيعها. يجب أن نعيد بناء اقتصاد وطني قوي يعتمد على الصناعة والإنتاج المحلي، بعيدًا عن التبعية الاقتصادية للقوى الخارجية. إرث عبد الناصر يجب أن يكون مصدر إلهام لاستعادة مكانة مصر على الساحة الدولية، ويجب أن نعمل جميعًا من أجل تحقيق استقلال اقتصادي حقيقي يضمن حياة كريمة لكل مواطن مصري.

إن الخيانة التي تعرض لها إرث عبد الناصر لم تكن مجرد خيانة للتاريخ، بل كانت خيانة لمستقبل مصر وشعبها. يجب أن نعيد التفكير في سياساتنا الاقتصادية، ونبدأ في استعادة ما تم بيعه، وبناء اقتصاد قوي يستند إلى الصناعة الوطنية ويحقق الاكتفاء الذاتي. هذا هو الطريق الوحيد لضمان مستقبل أفضل لمصر، بعيدًا عن القروض والديون التي ترهن إرادة البلاد للخارج.

ختامًا، هل تستعيد مصر مجدها؟

لقد آن الأوان لنعود إلى الجذور، إلى مصر التي بناها عبد الناصر. مصر التي كانت رمزًا للاستقلال الاقتصادي والسياسي.
------------------------------------------
بقلم: محمد عبدالمجيد هندي
* قيادي عمالي مستقل، مؤسس ورئيس المجلس القومي للعمال والفلاحين تحت التأسيس

مقالات اخرى للكاتب

لماذا مصر في صدمات متلاحقة؟