25 - 04 - 2025

"نحن والغرب": الهيمنة الناعمة وصناعة التبعية

لم تعد الهيمنة في العصر الحديث تعتمد فقط على القوة العسكرية أو الاحتلال المباشر، بل أصبحت أكثر نعومة وعمقًا من خلال وسائل مثل الثقافة، الإعلام، والتعليم. يُطلق على هذه الأدوات مفهوم "القوة الناعمة" الذي صاغه جوزيف ناي، والذي يشير إلى قدرة دولة ما على التأثير في الآخرين دون استخدام القوة، وإنما من خلال الجذب والإقناع.

تعتمد استراتيجيات الهيمنة الناعمة على التأثير في الوعي الجماعي والقيم والمعتقدات، مما يجعل الشعوب تتبنى مفاهيم وممارسات تصب في مصلحة القوى المهيمنة، دون أن تدرك ذلك بالضرورة. وهذا ما يجعلها أكثر خطورة من القوة الصلبة، لأنها تعمل على خلق التبعية دون مقاومة.

الثقافة كأداة للهيمنة الناعمة

تُعد الثقافة من أكثر الأدوات فعالية في فرض الهيمنة الناعمة، حيث تساهم في إعادة تشكيل الهوية الجمعية، وتوجيه الذوق العام، وتعزيز أنماط الحياة التي تخدم القوى المهيمنة. تستخدم الدول الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة، الثقافة كوسيلة لنشر رؤاها وأفكارها، مما يجعل المجتمعات المستهدفة تتبنى هذه المفاهيم دون مقاومة واضحة. يتجلى هذا التأثير في مجالات عدة، من السينما والفنون إلى الأدب والموسيقى والموضة، حيث يتم إنتاج صورة للعالم وفقًا لمنظور القوى المسيطرة. يمكن فهم هذه الظاهرة عبر محورين رئيسيين: انتشار الثقافة الأمريكية كنموذج عالمي، والسيطرة على الرموز الثقافية وتأثيرها على الهويات المحلية.

انتشار الثقافة الأمريكية كنموذج عالمي

تعد الولايات المتحدة أبرز مثال على الدولة التي استطاعت تصدير ثقافتها لتصبح المعيار السائد عالميًا. من خلال وسائل مثل السينما (هوليوود)، الموسيقى، الموضة، وأنماط الحياة الاستهلاكية، تمكنت من جعل أسلوب الحياة الأمريكي نموذجًا يحتذى به في العديد من الدول. لم يكن هذا مجرد صدفة، بل هو جزء من استراتيجية مدروسة لتعزيز النفوذ السياسي والاقتصادي عبر القوة الناعمة. فالأفلام والمسلسلات الأمريكية، على سبيل المثال، لا تقدم فقط الترفيه، بل تروج أيضًا لقيم مثل الفردانية، النزعة الاستهلاكية، وأهمية القوة العسكرية، وهي قيم تتماشى مع الأجندة الأمريكية العالمية.

يؤكد إدوارد سعيد في كتابه الثقافة والإمبريالية أن الثقافة الغربية تُستخدم كأداة لإعادة إنتاج صورة الشرق المتخلف مقابل الغرب المتحضر. هذا التصوير ليس مجرد انعكاس للواقع، بل هو جزء من مشروع إيديولوجي يهدف إلى تبرير الهيمنة السياسية والاقتصادية. فهوليوود، على سبيل المثال، عادة ما تصور الشخصيات الغربية كأبطال، بينما يتم تقديم الثقافات الأخرى – وخاصة العربية والإسلامية – في صورة نمطية سلبية، مما يعزز الفكرة القائلة بأن الحداثة والتقدم لا يمكن أن يتحققا إلا عبر تبني القيم الغربية (سعيد، 1993، ص 65).

إضافة إلى السينما، تساهم صناعة الموسيقى والإعلام الرقمي في ترسيخ هذا النموذج العالمي. فالأغاني الأمريكية، التي تتصدر قوائم الاستماع في العديد من الدول، لا تنقل فقط نمطًا موسيقيًا معينًا، بل تعكس أيضًا قيمًا ثقافية محددة، مثل الحرية المطلقة، الاحتفاء بالفردانية، والتأكيد على النزعة الاستهلاكية. هذه القيم يتم تصديرها كمعايير عالمية، ما يؤدي إلى إضعاف القيم المحلية والتقليل من شأن الثقافات التقليدية، التي تصبح شيئًا "قديمًا" مقابل الحداثة الغربية.

السيطرة على الرموز الثقافية وتأثيرها على الهويات المحلية

لا تقتصر الهيمنة الثقافية على نشر المحتوى الغربي، بل تتعداها إلى السيطرة على الرموز الثقافية نفسها. الرموز الثقافية تشمل الأزياء، الأسماء، الأنماط السلوكية، وحتى اللغات المستخدمة في الإعلام والإعلانات التجارية. في العديد من الدول، أصبح استخدام الكلمات الإنجليزية في الحوار اليومي أو تسمية المنتجات والعلامات التجارية بأسماء غربية جزءًا من محاولة محاكاة "التقدم"، مما يؤدي إلى تهميش اللغات المحلية وإضعاف الهويات الوطنية.

يرى نعوم تشومسكي في كتابه السيطرة على الإعلام أن الثقافة السائدة ليست مجرد وسيلة للترفيه، بل أداة لغرس قيم الهيمنة وتوجيه الرأي العام. فالإعلام الغربي، من خلال قوته الاقتصادية والتكنولوجية، يفرض رموزه الثقافية بطريقة تجعل الجماهير ترى في الثقافة الغربية النموذج المثالي الذي يجب اتباعه. على سبيل المثال، تنتج ديزني أفلامًا تستند إلى قصص وأساطير عالمية، لكنها تقدمها برؤية أمريكية بحتة، ما يؤدي إلى إعادة تشكيل الرموز الثقافية وفقًا لمنظور يخدم الهيمنة الغربية (تشومسكي، 2002، ص 27).

تتجلى هذه السيطرة أيضًا في الأدب والجوائز الثقافية، حيث يتم الترويج لكتاب وأعمال أدبية معينة على أنها "الأفضل عالميًا"، في حين يتم تجاهل الأعمال التي لا تتوافق مع هذا الإطار. الأدب الذي يحصل على جوائز عالمية مثل نوبل أو البوكر غالبًا ما يكون متوافقًا مع الرؤية الغربية، حيث يتم الاحتفاء بالكتّاب الذين يتبنون سرديات نقدية لثقافاتهم الأصلية أو يقدمون تصورات تتماشى مع القيم الغربية. هذه الظاهرة تخلق نوعًا من الرقابة الناعمة، حيث يصبح المبدعون في العالم غير الغربي مضطرين لمواءمة أعمالهم مع المعايير الغربية إذا أرادوا تحقيق الانتشار والاعتراف الدولي.

في النهاية، تؤدي هذه العمليات إلى تفريغ الهويات الثقافية المحلية من مضمونها، حيث تصبح المجتمعات أكثر انجذابًا إلى الصور النمطية الغربية التي تُقدم لها عبر الإعلام والسينما والأدب. هذا لا يعني أن الثقافات المحلية تختفي تمامًا، ولكنها تصبح تابعة للثقافة المهيمنة، تأخذ منها ملامحها وتعيد إنتاجها وفقًا لمعايير الغرب. وهكذا، تتحول الهيمنة الثقافية إلى آلية مستدامة لإعادة إنتاج النفوذ السياسي والاقتصادي، دون الحاجة إلى استخدام القوة الصلبة المباشرة.

الإعلام كأداة للهيمنة الناعمة

يُعتبر الإعلام واحدًا من أكثر الأدوات فعالية في تحقيق الهيمنة الناعمة، حيث يمكن من خلاله إعادة تشكيل الأحداث، والتلاعب بالسرديات، وصناعة الرأي العام وفقًا لمصالح القوى المسيطرة. بفضل التطور التكنولوجي وانتشار وسائل الإعلام الرقمية، أصبح التأثير الإعلامي أكثر قوة وانتشارًا، مما مكّن الدول الكبرى والشركات الإعلامية العملاقة من فرض رؤيتها للعالم، وتوجيه النقاشات العامة، وتحديد ما يجب أن يعرفه الجمهور وما يجب إخفاؤه عنه. يعتمد الإعلام كأداة للهيمنة الناعمة على عدة استراتيجيات، من بينها إعادة تشكيل الأحداث، وخلق العدو وتصنيع الخوف، والتلاعب بالرأي العام عبر الأخبار الكاذبة، وهي استراتيجيات تضمن إخضاع العقول والسيطرة على الوعي الجمعي دون الحاجة إلى استخدام القوة العسكرية أو القمع المباشر.

إعادة تشكيل الأحداث وفقًا لمصالح القوى الكبرى

يُستخدم الإعلام كأداة لإعادة صياغة الواقع بحيث يخدم مصالح القوى المسيطرة. يتم ذلك عبر اختيار الأخبار التي يتم تسليط الضوء عليها، وتجاهل الأحداث التي قد تضر بالسردية الرسمية، أو إعادة تأطير القضايا بطريقة تحرف جوهرها. هذه الاستراتيجية تتيح للأنظمة السياسية والاقتصادية الكبرى توجيه الرأي العام نحو قضايا معينة وصرف الانتباه عن قضايا أخرى، مما يخلق "إجماعًا مزيفًا" حول ما يستحق الاهتمام وما يجب تجاهله.

يشير الفيلسوف ميشيل فوكو في كتابه المراقبة والعقاب إلى أن الإعلام ليس مجرد ناقل محايد للأخبار، بل هو أداة لتوجيه الإدراك الجمعي، حيث تُستخدم أساليب مثل الإلحاح الإعلامي، وتكرار الأخبار، وإبراز بعض الشخصيات والأحداث، وإخفاء أخرى، من أجل تشكيل وعي الجمهور بما يتناسب مع الأجندة المسيطرة (فوكو، 1975، ص 89). على سبيل المثال، في الأزمات الدولية، يتم تقديم الصراعات من منظور القوى الكبرى، حيث يتم تصوير بعض الأطراف على أنهم "أبطال" وأطراف أخرى على أنهم "أعداء"، بغض النظر عن الحقائق الموضوعية على الأرض.

يتجلى هذا أيضًا في كيفية تغطية الصراعات في الشرق الأوسط، حيث يتم تبرير التدخلات العسكرية والسياسية من خلال إبراز جرائم طرف معين، والتغاضي عن انتهاكات الطرف الآخر، وفقًا لمصالح القوى الكبرى. وعندما تتطلب المصالح السياسية تغيير الرواية، يتم تعديل السرد الإعلامي بسهولة، مما يؤكد أن الإعلام ليس أداة للشفافية، بل وسيلة للتحكم في الإدراك والسيطرة على الجماهير.

خلق العدو وتصنيع الخوف

إحدى أخطر استراتيجيات الهيمنة الإعلامية هي تصنيع العدو وإثارة الخوف بين الجماهير، مما يسهل تبرير السياسات القمعية والتدخلات العسكرية. من خلال وسائل الإعلام، يتم تصوير مجموعات معينة أو دول محددة على أنها تشكل تهديدًا خطيرًا للنظام العالمي أو للقيم الإنسانية، مما يسمح للقوى الكبرى بتبرير سياساتها العدوانية بحجة الدفاع عن الأمن والاستقرار.

في كتابه صدام الحضارات، يشير صامويل هنتنغتون إلى أن الإعلام الغربي لعب دورًا محوريًا في ترسيخ صورة عدائية للإسلام والمسلمين بعد نهاية الحرب الباردة، حيث تم تقديم العالم الإسلامي على أنه الخطر الجديد الذي يهدد الغرب (هنتنغتون، 1996، ص 209). هذه الصورة النمطية لم تأتِ من فراغ، بل كانت نتيجة لحملة إعلامية مكثفة تهدف إلى خلق حالة من الذعر الجماعي، مما يسهل على الحكومات الغربية تبرير التدخلات العسكرية والسياسية في الدول الإسلامية.

يُستخدم الإعلام أيضًا في إعادة إنتاج أسطورة "الإرهابي الإسلامي"، حيث يتم تضخيم بعض الحوادث الفردية وإغفال الجرائم التي ترتكبها الدول الكبرى أو الحلفاء السياسيون. هذه الاستراتيجية لا تقتصر على الإسلام فقط، بل تم استخدامها ضد مجموعات أخرى مثل الشيوعيين خلال الحرب الباردة، حيث تم تقديمهم على أنهم تهديد عالمي يتطلب ردود فعل حاسمة، وهو ما برر التدخلات العسكرية الأمريكية في فيتنام وكوريا ودول أخرى.

من خلال التركيز على سرديات الخوف والتخويف، يصبح الجمهور أكثر تقبلًا للقيود الأمنية، والمراقبة الجماعية، والسياسات القمعية، وحتى الحروب. وهكذا، يتحول الإعلام إلى أداة لإدارة الجماهير من خلال التخويف المستمر، مما يؤدي إلى إضعاف التفكير النقدي وتعزيز الامتثال الجماعي.

التلاعب بالرأي العام عبر الأخبار الكاذبة

التلاعب بالأخبار هو إحدى أكثر استراتيجيات الهيمنة الإعلامية فاعلية، حيث يتم استخدام الأخبار الكاذبة، والتضليل الإعلامي، والتقارير الموجهة من أجل خلق واقع بديل يخدم أجندة القوى المسيطرة. في كثير من الأحيان، لا تكون الأخبار الكاذبة مجرد اختلاق للأحداث، بل يتم استخدام التضليل الجزئي، حيث يتم تقديم بعض الحقائق مع حذف أجزاء أخرى مهمة، مما يؤدي إلى إعادة تشكيل الإدراك العام بطريقة تخدم مصالح الجهات المهيمنة.

يؤكد إدوارد هيرمان ونعوم تشومسكي في كتابهما "عصر الدعاية" أن الإعلام ليس مجرد وسيط محايد، بل هو أداة لإنتاج القبول الجماهيري لسياسات معينة، حيث يتم تضليل الجمهور عبر اختيار الأخبار التي تتماشى مع مصالح النخب السياسية والاقتصادية، وإخفاء الحقائق التي قد تضر بهذه المصالح (هيرمان وتشومسكي، 1988، ص 45).

على سبيل المثال، في تغطية النزاعات الدولية، يتم التركيز على صور الضحايا من طرف معين، في حين يتم تجاهل ضحايا الطرف الآخر، مما يخلق تصورًا غير متوازن عن طبيعة الصراع. كما يتم استخدام المصطلحات بعناية، حيث يتم وصف بعض الجماعات المسلحة بأنها "متمردون" أو "مقاتلون من أجل الحرية"، بينما يتم وصف جماعات أخرى بأنها "إرهابية"، وفقًا للموقف السياسي للقوى الكبرى.

إضافة إلى ذلك، شهدنا في العقود الأخيرة انتشار حملات التضليل عبر وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يتم استخدام الجيوش الإلكترونية والروبوتات الإعلامية لنشر أخبار زائفة تؤثر على الرأي العام، سواء في الانتخابات، أو الأزمات السياسية، أو حتى خلال الأوبئة العالمية. يتم استخدام هذه التقنيات ليس فقط من قبل الحكومات، ولكن أيضًا من قبل الشركات الكبرى التي تسعى إلى التأثير على الأسواق والتلاعب بالمستهلكين عبر حملات دعائية مضللة.

يلعب الإعلام دورًا حاسمًا في تشكيل الوعي الجمعي والتحكم في الإدراك العام، مما يجعله أداة رئيسية في استراتيجيات الهيمنة الناعمة. من خلال إعادة تشكيل الأحداث، وتصنيع الخوف، والتلاعب بالأخبار، يتمكن الإعلام من خلق واقع بديل يخدم مصالح القوى الكبرى، دون الحاجة إلى اللجوء إلى القمع المباشر. في عالم يهيمن عليه الإعلام الرقمي، أصبح من الضروري تطوير مهارات التفكير النقدي والتعامل بحذر مع المعلومات التي يتم تقديمها، حتى لا نتحول إلى أدوات طيّعة في يد القوى المسيطرة.

التعليم كأداة للهيمنة الناعمة

يُعتبر التعليم أحد أخطر أدوات الهيمنة الناعمة، نظرًا لدوره المركزي في تشكيل العقول منذ الصغر، وإعادة إنتاج التصورات الثقافية والسياسية، وتعزيز شرعية القوى المهيمنة. بخلاف الأدوات الأخرى، يمتلك التعليم تأثيرًا طويل الأمد، حيث أنه يغرس الأفكار والمفاهيم في الأجيال الجديدة بطريقة تجعلها تتبنى رؤى معينة دون وعي مباشر بذلك. تستخدم القوى الكبرى التعليم ليس فقط لنقل المعرفة، بل أيضًا لتوجيه الإدراك العام، والتحكم في السرديات التاريخية والسياسية، وتشكيل النخب التي ستدير شؤون الدول النامية وفقًا لمصالح الغرب. تتحقق هذه الهيمنة عبر استراتيجيات مختلفة، مثل تصميم المناهج الدراسية لخدمة أجندات معينة، وتحويل الجامعات إلى أدوات للنفوذ الثقافي والسياسي، وتعزيز تأثير مراكز الأبحاث والمؤسسات الفكرية الغربية في صياغة الفكر والسياسات العامة.

المناهج الدراسية كوسيلة لإعادة إنتاج الهيمنة

تلعب المناهج الدراسية دورًا أساسيًا في إعادة تشكيل الوعي الجمعي، حيث يتم تصميمها بطريقة تعزز سرديات معينة وتهمّش أخرى، مما يؤدي إلى فرض رؤية محددة للعالم على الطلاب منذ الصغر. لا يقتصر الأمر على تدريس العلوم الطبيعية أو الرياضيات، بل يمتد إلى التاريخ، الفلسفة، والعلوم الاجتماعية، حيث يتم توجيه المحتوى التعليمي وفقًا لمصالح القوى المهيمنة.

في كتابه "تعليم المقهورين"، يشير باولو فريري إلى أن النظام التعليمي التقليدي يُستخدم كأداة للسيطرة على المجتمعات، حيث يعتمد على "التلقين" بدلًا من "التفكير النقدي". وفقًا لفريري، فإن التعليم في العديد من الدول لا يشجع الطلاب على التساؤل أو التفكير النقدي، بل يُربّيهم على تقبل الأفكار الجاهزة التي تخدم النظام القائم (فريري، 1970، ص 71). على سبيل المثال، يتم في العديد من المناهج الدراسية إعادة إنتاج التاريخ وفقًا للسردية الرسمية للدولة أو للقوى العالمية الكبرى، حيث يتم تصوير الغرب على أنه المركز الحضاري والتقدمي للعالم، بينما تُهمّش الإنجازات الحضارية والثقافية لمناطق أخرى، مثل العالم الإسلامي أو إفريقيا.

علاوة على ذلك، يتم التلاعب بالمفاهيم والقيم الأساسية مثل الحرية، الديمقراطية، وحقوق الإنسان، بحيث يتم تقديمها كقيم غربية حصرية، وليس كقيم إنسانية عامة. بهذه الطريقة، يتم زرع الاعتقاد بأن التقدم لا يمكن أن يحدث إلا من خلال تبني النموذج الغربي بالكامل، دون النظر إلى السياقات المحلية أو الثقافات المختلفة. وبهذا، يصبح التعليم أداة لإعادة إنتاج الهيمنة الثقافية والفكرية، حيث يتم تلقين الأجيال الجديدة رؤية أحادية للعالم تخدم مصالح القوى المهيمنة.

الجامعات كأدوات للنفوذ الثقافي والسياسي

لا تقتصر الهيمنة التعليمية على المناهج الدراسية في التعليم الأساسي، بل تمتد إلى الجامعات، التي أصبحت أدوات فعالة لتشكيل النخب الفكرية والسياسية في الدول النامية. تستخدم الجامعات الكبرى في الغرب المنح الدراسية، البرامج البحثية، والشراكات الأكاديمية كوسائل لجذب الطلاب المتميزين من دول العالم الثالث، مما يجعلهم يتعرضون لنظام تعليمي يعزز التصورات الغربية عن السياسة، الاقتصاد، والثقافة.

يرى بيير بورديو في كتابه "الهيمنة الرمزية" أن التعليم ليس مجرد وسيلة لنقل المعرفة، بل هو أداة لإعادة إنتاج الطبقات الاجتماعية وتعزيز شرعية السلطة المسيطرة (بورديو، 1989، ص 123). وفقًا لهذا الطرح، فإن النخب المتعلمة في الجامعات الغربية غالبًا ما تعود إلى بلدانها وهي متأثرة بالرؤية الغربية للعالم، مما يجعلها أكثر ميلًا لتنفيذ السياسات التي تتماشى مع مصالح الغرب، حتى دون وعي مباشر بذلك.

إضافة إلى ذلك، تعمل الجامعات الغربية على استقطاب الأكاديميين والباحثين من دول الجنوب العالمي، مما يؤدي إلى "هجرة العقول"، حيث تستفيد الدول الكبرى من أفضل العقول في العالم، بينما تعاني الدول النامية من نقص الكفاءات في المجالات العلمية والفكرية. كما يتم في بعض الأحيان إقصاء الأكاديميين الذين يقدمون رؤى بديلة أو ناقدة للنظام العالمي، مما يحدّ من التنوع الفكري ويعزز الخطاب المهيمن.

إلى جانب ذلك، تسيطر الجامعات الكبرى على إنتاج المعرفة من خلال المجلات العلمية والمؤتمرات الأكاديمية، حيث يتم تحديد ما يُعتبر "علميًا" أو "ذا قيمة"

هل يمكن مقاومة الهيمنة الناعمة؟

في ظل هذا المشهد المترامي الأطراف، يبرز سؤال جوهري: هل يمكن مقاومة استراتيجيات الهيمنة الناعمة؟ الإجابة ليست بسيطة، لأن الهيمنة الناعمة لا تُفرض بالقوة المباشرة، بل تعمل بهدوء واستمرار على تشكيل العقول، وإعادة صياغة القيم، وفرض نماذج ثقافية وسياسية محددة تبدو وكأنها الخيار الطبيعي الوحيد. لكن بالرغم من ذلك، فإن مقاومتها ليست مستحيلة، بل تتطلب وعيًا نقديًا عميقًا وإرادة سياسية وثقافية حقيقية. يمكن تحقيق ذلك من خلال إعادة الاعتبار للثقافة المحلية وتعزيز المحتوى الإبداعي المستقل، وتطوير إعلام بديل قادر على تقديم روايات مغايرة، وإصلاح التعليم ليكون أكثر تحررًا ونقدًا بدلًا من كونه أداة للتلقين وإعادة إنتاج الهيمنة.

أولًا، إعادة الاعتبار للثقافة المحلية يُعد من أهم استراتيجيات المواجهة، حيث يمكن للدول والمجتمعات أن تعزز إنتاجها الثقافي المستقل من خلال السينما، الأدب، الفنون، والموسيقى التي تعكس هويتها الخاصة، بدلًا من استهلاك الثقافة الوافدة دون وعي نقدي. من خلال دعم الصناعات الثقافية الوطنية، يمكن خلق نماذج تعبيرية بديلة تحافظ على الخصوصية الثقافية، وتمنح الأفراد القدرة على إعادة تعريف هويتهم بعيدًا عن التصورات المفروضة. كما أن الاهتمام باللغة والتراث والتاريخ المحلي يلعب دورًا حاسمًا في منع التبعية الفكرية، لأن اللغة ليست مجرد وسيلة تواصل، بل هي أداة لإنتاج المعرفة ونقل القيم والتصورات المختلفة عن العالم.

ثانيًا، لا يمكن مواجهة الهيمنة الناعمة دون إعلام بديل مستقل قادر على تقديم سرديات مغايرة. الهيمنة الإعلامية لا تعمل فقط عبر فرض الأخبار، بل من خلال التحكم في طريقة السرد وتحديد القضايا التي تستحق الاهتمام. بناء منصات إعلامية مستقلة تعبر عن الواقع المحلي بموضوعية، وتتبنى خطابات نقدية تجاه الروايات الرسمية للغرب، يمكن أن يسهم في تفكيك الصور النمطية وتقديم رؤى أكثر توازنًا. كذلك، فإن تعزيز الصحافة الاستقصائية والإعلام الرقمي يمنح المجتمعات أدوات لمساءلة القوى الكبرى وكشف تلاعبها بالمعلومات.

أخيرًا، فإن إصلاح التعليم ليكون أكثر تحررًا ونقدًا هو الخطوة الأكثر استدامة لمواجهة الهيمنة. يجب أن يتحول التعليم من نظام تلقيني إلى نظام يحفز التفكير النقدي، ويشجع الطلاب على التساؤل وتحليل الظواهر بوعي مستقل. كما أن تعزيز البحث العلمي المستقل، وتطوير مناهج دراسية تعكس تعددية الرؤى، يمكن أن يحدّ من التأثيرات غير الواعية للهيمنة الناعمة. فالخطر الحقيقي لا يكمن فقط في أن الشعوب تُهيمن ثقافيًا وسياسيًا، بل في أنها تتبنى أفكار المستعمِر دون أن تشعر بذلك. وكما قال الفيلسوف أنطونيو غرامشي: "أخطر أنواع السيطرة هي التي تجعلك تصدق أنك اخترتها بنفسك"، ولهذا فإن أول خطوة في مقاومة الهيمنة الناعمة هي الوعي بها، لأنها لا تعمل عبر القمع المباشر، بل من خلال التغلغل البطيء في الوعي الجماعي، وجعل الهيمنة تبدو وكأنها الخيار الوحيد الممكن.
-------------------------------
بقلم: حسام الحداد

المراجع

1.     سعيد، إدوارد. الثقافة والإمبريالية، ترجمة كمال أبو ديب، بيروت: دار الآداب، 1993.

2.     تشومسكي، نعوم. السيطرة على الإعلام، ترجمة أحمد العلي، بيروت: دار الكتاب العربي، 2002.

3.     فوكو، ميشيل. المراقبة والعقاب، ترجمة عبد السلام بنعبد العالي، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1975.

4.     هنتنغتون، صامويل. صدام الحضارات، ترجمة محمد محمود خليفة، القاهرة: سطور، 1996.

5.     هيرمان، إدوارد وتشومسكي، نعوم. عصر الدعاية، نيويورك: دار بانثيون، 1988.

6.     فريري، باولو. تعليم المقهورين، ترجمة محمد بن صالح، بيروت: دار الطليعة، 1970.

7.     بورديو، بيير. الهيمنة الرمزية، باريس: دار مينوي، 1989.

مقالات سابقة في ملف "نحن والغرب"

مقالات اخرى للكاتب

الدكتور خالد منتصر.. ودوائر الفكر المغلقة