21 - 06 - 2024

تركيا وإن طال الصمت

تركيا وإن طال الصمت

آخر مرة كتبت فيها عن تركيا كانت منذ حوالي 15 عاماً. أذكر العنوان جيداً:" تركيا تتجه شرقاً". تراوغني التفاصيل، لكن المحور الإجمالي للمقال كان عن توجه جديد، حينها، اتخذته أنقرة لتدعيم علاقاتها بالشرق العربي والإسلامي إجمالاً بعد أن ارتمت لعقود على أعتاب الغرب ترجو إذناً بالدخول واعترافاً بشقها الأوروبي دون جدوى.
بدا التوجه نحو الشرق وقتها مضغوطاً بين فكرتين وهدفين: إعلان الاستياء، وليس اليأس،  لعدم نيل اعتراف غربي بأن لتركيا نسباً وامتداداً جغرافياً أوروبياً يمنحها حق الانضمام للاتحاد الأوروبي الذي كان في بداياته حينها، والتفتيش في أحضان الشرقيين وبين ثنايا دولهم عن كروت قوة حظيت بها في الماضي التليد حين كانت حاضرة الخلافة الإسلامية هي الاستانة وحين كانت تلك الدول مجرد ولايات تابعة للتاج العثماني.
الاستياء كان مفهوماً ومبرراً في ظل علاقات تركية غربية كان أفضل تعبير عنها شاهدته على الإطلاق هو رسم كاريكاتوري عبقري في جريدة الحياة الدولية: كان الرسم لبيت يشع ضوءاً تتوسطه مائدة عامرة بالطعام والشراب، يتحلقها عدد كبير من علية القوم يتبادلون الأنخاب والابتسامات والتعليقات،يقتربون ويتباعدون من مدفأة يسري منها الدفء والحرارة غير آبهين بالجليد المتساقط في الخارج. أما في الخارجفيقف وحيداً تحت الثلوج ووسط الظلام جندياً يحرس باب البيت، يعتمر غطاء رأس كُتب عليه تركيا. 
هكذا كان موقع تركيا من الغرب حينها: مسموح لها أن تكون عضوا في حلف شمال الأطلنطي (ناتو) حيث يوكل إليها ويتوقع منها أن تسهم في كل الواجبات العسكرية المنوط بالناتو القيام بها (أو التي يرغب الناتو تنفيذها دون أن تتسخ قفازاته)، وحيث تسع أراضيها واحدة من أكبر وأقدم القواعد العسكرية الأمريكية هي قاعدة أنجرليك في أضنة جنوبي تركيا.. أما التطلع للانضمام للاتحاد الأوروبي حيث المزايا الاقتصادية والتجارية والسياسية والتمتع كأتراك بحقوق الأوروبيين في السفر الحر والتنقل بين ربوع القارة فممنوع ومحظور، في حين فتحت أبواب العضوية لبلدان أقل شأناً وقدراً من تركيا.
وبالتبعية فقد كان التوجه شرقاً مفهوماً ومبرراً وغير مكلف أيضاً؛ فغاية ما يتطلبه هو حكومة ترفع شعاراً إسلامياً، وتجأر بتصريحات شفهية عن مناصرة القضية الفلسطينية، وتضع بين الحين والآخر المدافعين الحقيقيين عن القضية الفلسطينية في مواضع حرجة،مع قوة ناعمة قوامها أعمال درامية تغازل الذائقة الشرقية الساذجة.
وهكذا على مدى سنوات، سعت أنقرة على ساقين؛ أحدهما يواصل بجدية تمتين العلاقات الغربية  بالاستمرار حليفاً مخلصاً للغرب المتدلل، من خلال مواصلة عضويتها في الناتو، وتفعيل دور قاعدتها العسكرية القريبة من أهم المواقع الاستراتيجية للولايات المتحدة ( العراق وسوريا وإيران) وبتدشين علاقات استراتيجية وعسكرية مع إسرائيل أصبحت بفضلها ثاني مستورد لأهم المعدات والأسلحة العسكرية الإسرائيلية الصنع  وأحد أهم مزودي إسرائيل بالوقود. أما الساق الثانية فعرفت طريقها لتحالفات بدا أن الهدف منها هو طرح نفسها للغرب باعتبارها الوصفة الإسلامية القادرة على احتواء التيارات المتشددة. ومع مضي الوقت تبدلت وتنوعت التحالفات من اقتراب سياسي مع سوريا إلى انقلاب وعداء، ومن علاقات متوازنة وندية مع مصر إلى محاولات إحراجها وتقزيم دورها ومن علاقات هادئة مع الخليج إلى تحالف غير مفهوم مع أصغر دويلاته قطر.
حصدت تركيا سريعاً ثمار سعيها المزدوج، فمن ناحية نالت حظوة ومكانة في الغرب الذي منحها " البرستيج" المطلوب ومعه الامتيازات الاقتصادية، ومن ناحية أصبح لها بين المشرقيين والعرب بالذات تقديراً وموقعاً وأيضاً فوائد اقتصادية إذ انتعشت السياحة التركية بأموال السائحين العرب وانفتحت الأسواق العربية للمنتجات التركية على نحو لا ينافسه إلا المنتجات الصينية. (ولعل هذا موضوع لابد من الانتباه إليه قبل أن تموت الصناعة المصرية المحتضرة اختناقاً تحت ضغط التزاحم الصيني والتركي).
ومع الحصائد الوفيرة واقتراب الهدف من تحققه، كان طبيعياً أن يستعر غضب أنقرة وجنونها حين تداخلت الخطوط على المسار الأصلي لاستراتيجية  تدشين النفوذ الدولي من بوابة الشرق تحت لافتة إسلامية. لقدأدت التطورات السياسية المذهلة التي تكالبت على المنطقة إلى انهيار هذا المسار بما يهدد الحصائدالوفيرة ويبتعد بالهدف عن التحقق ويقضي على رهان تركيا غرباً وشرقاً.
هل يفسر ماسبق احتدام العداء التركي لمصر مابعد 30 يونية كما لوكانت 30 يونية أطاحت بأردوغان شخصياً؟!

##
##
 
 

مقالات اخرى للكاتب

رؤية خاصة| نورا على طريق الغارمات





اعلان