26 - 09 - 2024

فَضَاءَاتُ التَّنْوِيْرِ .. فَتِّشْ عَنْ الخِطَابِ الدِّيْنِي

فَضَاءَاتُ التَّنْوِيْرِ ..  فَتِّشْ عَنْ الخِطَابِ الدِّيْنِي

أن نتناول البحث عن ملامح الخطاب الديني الراهن دون أن نعرج ولو بدرجة قليلة صوب خطاب سياسي موازٍ للأهمية والدلالة لهذا الخطاب الديني وهي كلمة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة ، فإننا بذلك نكون قد أغفلنا عن عن رافد رئيسي من روافد هذا الخطاب الديني ليس في صورته الفقية أو التشريعية إنما من زاوية الاهتمام بالتنوير وحقوق الإنسان والارتقاء بتعزيز مفاهيم المواطنة والتسامح ، لاسيما وأن الخطاب بنصه قد تناول ضرورة تجديد الخطاب الديني المعاصر ودوره في مقاومة الإرهاب والعنف والتطرف .

رَئِيْسٌ وَمسْئُولِيَّةٌ :

ولسنا بصدد تقييم خطاب الرئيس عبد الفتاح السيسي من الناحية السياسية ، لكن ما ينبغي قوله في هذا الصدد هو ملامح الخطاب الذي أشار إلى مصر مهد الحضارة الإنسانية ، وطبيعة المصريين التي ظهرت في وجه الطغيان والاستلاب ونتجت عنها ثورتان متتاليتان ، ورفض الإقصاء ، وهي أمور كلها ينبغي أن يستدعيها الخطاب الديني الراهن المهموم بثورة الفكر وتنوير وتحرير العقول من سباتها العميق ، ومكانة هذا الخطاب الذي يصدر من دولة بحجم مصر العظيمة التي كانت مهداً للإنسانية وحضارة البشر ، علاوة على ضرورة اهتمام الخطاب الديني بنبذ الإقصاء السياسي والديني الذي لصق بفصيل جماعة الإخوان التي سعت لمدة عام كامل في إقصاء التيارات غير المتوافقة مع رؤاها وأيديولوجيتها الفكرية والسياسية .ثمة علامة أخرى جاءت في ثنايا خطاب الرئيس عبد الفتاح السيسي والتي يمكن الإفادة منها في تطوير الخطاب الديني الراهن ، هذه العلامة يمكن اقتناقصها من خلال عبارة الرئيس التي جاءت في صدد كلمته وهي " فالدين أسمى وأقدس من أن يوضع موضع الإختبار فى أية تجارب إنسانية " ، وهذا يجعل الخطاب الديني في مسئولية مجتمعية شديدة الأهمية والخطورة في هذه الأوقات المضطربة لاسيما حالات السجال والتنازع الديني السياسي بين بعض فصائل تيارات الإسلام السياسي والليبراليين أو بالأحرى دعاة الدولة المدنية الحديثة . والقائمون على أمر الخطاب الديني في مصر عليهم أن يكترثوا بقدسية الدين وسموه ومكانته وأن ثمة فرق كبير بين تعاليم الإسلام الراسخة وثوابته التي لا تتغير وبين الاجتهاد الذي يعد تجربة إنسانية قد تتوافق أو تتمايز مع العصر والشهود الحضاري الحالي .

وإذا كانت كلمة السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة قد تضمنت معالم إنسانية يمكن توصيفها بالحالة المصرية السياسية والاجتماعية ، فإن الدين بوصفه المنظومة الأشمل التي تندرج تحتها كافة مجالات الحياة من سياسة واجتماع وفكر وعلاقات إنسانية ، فإن المؤسسة الدينية التي تدعي ليل نهار بأنها بصدد تطوير الخطاب الديني والسعي إلى تجديده وتنقيته من الشوائب والمثالب التي تعتريه ، فخطاب الرئيس اشتمل على جملة من المعالم أو الملامح التي يمكن توظيفها في تطوير الخطاب الديني وهي ملامح وإن تبدو سياسية أو تتعلق بالمشهد السياسي الرسمي إلا أنها في حقيقة الأمر لا تخرج عن كونها مساحات إنسانية عالمية ، من مثل ذلك إقصاء الآخر بالاستبعاد أو بالتكفير ، وتحقيق قيم العدل والإنسانية ، وهو ما يعكس دور الخطاب الديني المطلوب هذه الأيام في الرؤية إلى العالم وتحقيق مقاصد الإنسانية من خلال خطاب إسلامي تنويري يبين عالمية الإسلام وسماحته ومناقبه المتعددة . والإسلام بطبيعته امتاز به الإسلام فيالرقي والاعتناء بالخلق والسلوك والطبيعة الإنسانية بوجه عام.

وإذا كانت الفلسفات والتيارات الفكرية التي اجتاحت أوروبا و التي انتشرت بعد الحرب العالميةالثانية قد أتاحت حرية التفكير ومرونة العقل ، لكنها في الوقت نفسه جعلت الإنسان الأوروبي مكبلاً بالأغلال، حيث تركته فريسة سانحة القنص للقلق والتوتر والهوس الذي أدى به إلى الانتحار الجماعي ، فإن الإسلام في ذلك عالج هذا الأمر معالجة حكيمة، حينما اهتم بالجانب التعبدي والجانب الأخلاقي للمرء، فاستطاع بالجانب التعبدي أن يصل بأطواره إلى حد الاكتمال من صلاة وزكاة وحج وصيام وغيرها من الشعائر التعبدية التي تسهم إسهامًا كبيرًا في الارتقاء بالجانب الأخلاقي ، محققاً أعلى قدر من الإنسانية .

مَلامِحُ الخِطَابِ الدِّيْنِي المَنْشُودِ :

وإذا كان الخطاب الديني المعاصر قد تشوبه مجموعة من المثالب تحققت لديه بفضل تجريف العقول الذي مارسه نظام مبارك وتبعه في الاستقطاب الرئيس الأسبق محمد مرسي فكان خطاباً استلابياً يمارس الإقصاء بدوره صوب المخالفين والمعارضين فإن ما نأمله في خطابنا الديني الاستشرافي أن يعلي من قيم التعدد الثقافي والتنوع بل إن الإسلام لا يزال يعطي أعظم درس لقبول التعددية لا سيما الدينية ، فلم يكن الإسلام الحنيف يومًا ضد حرية الاعتقاد، بل كان داعيًا إلى حرية المرء في اختيار عقيدته، ومن هنا تبرز سماحة الإسلام وعبقريته في آن واحد، وجاء ذلك بوضوح شديد في النص القرآني، حيث يقول الله تعالى ( لا إكراه في الدين ) )البقرة: ??? (، والإسلام بذلك يقر حقيقة عظيمة للإنسانية، وهي عدم إرغام المرء على ترك دينه ودخول دين جديد، ويؤكد النص القرآني ذلك، مثل قوله تبارك وتعالى ( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) ( الكهف : 29 ) .

والدين الإسلامي كان الدين السماوي الحنيف الذي أقر بمبدأ التعددية الدينية، بل واعترف بها أيضًا، ومن منطلق هذا اعترف الرسول] باليهود ككيان واقعي بالمدينة المنورة، وإعطاء الفاروق عمر بن الخطاب[ الأمان والحرية الدينية للمسيحيين من سكان مدينة القدس العربية، وما فعله عمرو بن العاص[ بالأقباط حينما فتح مصر، بخلاف ما فعله الأسبان بأهل الأندلس المسلمين من قتل وصلب وحرق وتدمير. ومن هنا وجب على الخطاب الديني المعاصر أن يتلمس خطى الإسلام في قبول التنوع الديني والثقافي ولا يستهدف إقصاء المخالف والمغاير في الرأي والعقيدة ، الأمر الذي عايشناه وربما نعيش بعضاً من آثاره من جانب بعض فصائل تيارات الإسلام السياسي .

البَحْثُ عَن دَوْرٍ وَظِيْفِيٍّ للخِطَابِ الدِّيْنِي :

ومن تتبع بجدية كلمة الرئيس عبد الفتاح السيسي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة ، يدرك معاصرته للسياق الاجتماعي العالمي الذي تعيش فيه مصر وينبغي أن يحرص الخطاب الديني أيضاً على معاصرة السياق الاجتماعي وارتباطه بالأحداث الجارية ، فمثلاً استمعنا إلى تطرق الرئيس إلى بعض القضايا السياسية والاجتماعية العالمية كالمشهد السوري ، وتنظيم الدولة الإسلامية ، وتفشي مرض أبيولا ، وأخيرا القضية الفلسطينية التي كان من قدر مصر ألا تتخلى عنها شعباً وحكومات متعاقبة . وهو الأمر الذي ينبغي أن ينتقل إلى خطابنا الديني الراهن والاستشرافي ، والذي غرق إلى أذنيه في موضوعات ربما يمكن قراءتها فقط في كتب كليلة ودمنة وألف ليلة وليلة والنوادر وغيرها من كتب الطرائف اللغوية والثقافية ، فكم من رجل محسوب على تيارات الإسلام السياسي تطرق إلى موضوعات نكاح الميتة ، وجواز التلصص على امرأة أثناء استحمامها ، أو جبريل الذي يهبط في رابعة العدوية بمدينة نصر القاهرية ، لذا فمن الأحرى أن يلتفت الخطاب الديني المعاصر إلى قضايا أمتنا الحقيقية وليس العبث بالعقول واللهو من خلال الاجتهاد السلبي الذي لا ينم عن قراءة واسعة وفهم وتأويل ناضج لتعاليم ديننا الحنيف.

إن فكرة البحث عن دور وظيفي للخطاب الديني هي التي تعكس مدى أهميته وجديته في تنوير العقول والألباب ، وليت القائمين على تطوير الخطاب الديني الآن يدركون ويفطنون أخطر حقيقة تماثل يقين المعرفة ، وهي أن بخطابهم الديني هذا يصوغون ويشكلون ملايين الأنفس والعقول البشرية . لقد نجحت بعض الجماعات والتيارات الدينية في الابتعاد بالمواطن عن شهوده الحضاري الفعلي الذي يحياه ، وأغرقته بخطابها الديني في عوالم افتراضية غير حقيقية أو لها صفة الواقعية ، ولو اكترثنا بالأمر قليلاً لاكتشفنا أن من أبرز معالم خطاب الإسلام أنه واقعي ، وتمتاز العقيدة الإسلامية بانسجامها مع الواقع، وتوافقها مع الحياة، فمنهج العقيدة الإسلامية لا ينكر واقع الإنسان وبيئته، بل امتاز بملاءمةالواقع، والانطلاق منه إلى معارج الخير والفضيلة، والواقعية في الإسلام تعني مراعاة الكون من حيث هو حقيقة واقعية ووجود مشاهد، والعقيدة الإسلامية من خلال توجهاتها الفكرية وتعليماتها الأخلاقية لم تنس واقع الكون وواقع حياة الإنسان.

تَأمِيْمُ الخِطَابِ الدِّيْنِي :

على مر عقود بعيدة ومصر بقدر ما هي تعاني من فوضى الخطاب الديني وهوس البعض في الغلو والتكفير ، بقدر حديثنا المكرور عن ضرورة تطوير الخطاب الديني وتجديده ، والغريب أن الفعل السياسي الذي كنا نظن أن حراكه يرنو على استحياء بخطى وئيدة حتى شهدت البلاد ثورتين شعبيتين في ثلاث سنوات لم يصاحبه فعل تنويري يرتكز على خطاب ديني مستنير وقويم رغم امتلاك البلاد والعباد لطاقات استثنائية يمكن الإفادة منها واستغلالها أفضل استغلال ، فظل الخطاب الديني عقب ثورتي يناير ويونيو بنفس الإيقاع الذي لم يخل من الرتابة أو الجمود أو رجوع القهقري لحوادث تاريخية لا تتصل بواقعنا أو الاكتفاء بنفس الموضوعات المكرورة والتي تضلل أكثر مما تهدي إلى اليقين ، ولا ينكر أحد أن الخطاب الديني فقد بوصلته حينما اهتزت صورة الأزهر نتيجة ممارسات جماعة الإخوان بشأنها وشأن رجالاتها وشيوخها الذين أسهموا أنفسهم أيضاً في زعزعة استقرار المواطن صوب المؤسسة الدينية الرسمية ، وظن كثيرون أن الأزهر الشريف ينأى أن يدخل مضمار السياسة أو أنه يمارس دور المحلل الشرعي لسياسات النظام الحاكم طوال فترة حكم مبارك ، ومن الصعب توضيح وبسط تاريخ الأزهر الشريف ومكانته الدينية والعلمية في العالم في سطور قليلة ، لكن أصبح دور الأزهر الشريف ووزارة الأوقاف اليوم بالغ الأهمية في تطوير الخطاب الديني عن طريق تأميمه ليس بالمعنى والدلالة الناصرية التي أممت بها القناة ومؤسسات الدولة ، لكن بدلالة الحفاظ على هوية الإسلام .

لقد آن الوقت لوضع شروط وضوابط تبدو بعض الشئ صارمة لاعتلاء المنابر أو للكتابة الدينية من أجل تضييق الانفلات الدعوي الذي اجتاح مصر عقب ثورة يناير مما أدى إلى لغط واسع وجدال كبير بين المصريين في أمور حياتهم الدينية ، وإذا كانت الحركات الدينية السياسية في مصر لم تتمكن من إثبات وجودها الفعلي في صياغة واقع جديد للوطن ، بل وفشلت في استيعاب وعي هذه الأمة بحاضرها واستشراف مستقبلها ، فإن للأزهر دوراً في تقديم خطاب ديني تنويري يمكن من خلاله استعادة ريادة مصر الإنسانية .

##

مقالات اخرى للكاتب

قَهْوَة بَلَدِي .. التَّعْلِيْمُ حِينَمَا يَبْكِي حَالَهُ !