26 - 09 - 2024

قَهْوَة بَلَدِي .. التَّعْلِيْمُ حِينَمَا يَبْكِي حَالَهُ !

قَهْوَة بَلَدِي .. التَّعْلِيْمُ حِينَمَا يَبْكِي حَالَهُ !

مثلما قال الحكيم المعاصر الدكتور مصطفى محمود في كتابه الماتع " يوميات نص الليل " إن أسوأ شئ أن تفتح عينيك في الصباح على الجرائد ، إن معنى هذا أن تعلن الحرب على أعصابك كل يوم " ، فإن أسوأ شئ في أيامنا الراهنة المعاصرة أن تستقبل يومك بحكايا وأخبار المدرسة المصرية التي ل هي استحالت عصرية استشرافية ولا ظلت كحالتها المنصرمة متطورة جميلة ، بل صارت نموذجا مثالياً للفوضى والإهمال والتردي العلمي والترهل الإداري .

ليس هذا من قبيل حوادث الموت التي حدثت خلال أسبوعين منذ بدء الدراسة ، لكن هذا يعد نتاجاً طبيعيا ومنطقيا لجملة المثالب التي نوهت عنا سابقا لدى وزير التربية والتعليم ووزارته التي تلهث وراء التصريحات والتبريرات وكأنها تعي أنها في موضع اتهام مستدام وأنها ترتكب ثمة جرائم إنسانية بحق أبنائنا مما انعكس هذا الصلف على مديري المدارس بغير استثناء حكومية ودولية وخاصة وتجريبية وفلكلورية وشعبية وهي المدارس التي يطلق عليها المصريون البسطاء " مدارس بير السلم " .

ومشكلة الوزارة والوزير أنهما معا تخليا عن المسئولية التهذيبية والتعليمية وبات أمرهما ينحصر في الكشف عن الخلايا الإخوانية النائمة واليقظة والنشطة التي تعيث في المدارس فسادا وتقويضاً لاستقرار الوطن ، وتحولت مهامهما إلى تسكين الرأي العام بحذف موضوعات وإضافة موضوعات وإعلان التعلم النشط شعاراً لمرحلة تعليمية جديدة في عمر الوطن .

وكم هو جميل حقا أن تهتم الوزارة والوزير والسادة المدراء البعيدين عن التربية والتهذيب والتأهيل التربوي الرصين بتحية العلم لأنها رمز للوطنية ، وكذلك كم هو رائع بالفعل تدشين النشاطات التعليمية التي هي متنفس حقيقي لنشاط التلاميذ الزائد ، وكم وكم وكم هو ماتع وباتع أيضاً حرص القائمين على المنظومة التعليمية في إكساب المعلمين المهارات التدريسية اللازمة وتدريبهم المستمر بغير ملل أو كلل على استخدام الطرائق التدريسية الحديثة في تعليم أبنائنا.

لكن يبدو أن القائمين على المنظومة بدءاً من الوزير الذي لا ولن يقدم استقالته من الوزارة لأننا لسنا سويسرا ولا السويد ولا النمسا ولا النرويج ولا الصين ، انتهاءاً بحارس المدرسة الذي كنا صغارا نطلق عليه لقب " الفراش " لم يطلعوا على أحدث كتاب في مجال التربية والذي صدر في شهر أكتوبر الجاري في الصين بعنوان "التعليم الجديد في الصين " لمجموعة رائدة في مجال التعليم والتهذيب ، وهذا الكتاب باختصار هو دعوة صريحة ومباشرة لإعادة تأهيل التلاميذ والمسئولين في ضوء النسق القيمي والمبادئ الإنسانية الحاكمة .

ففي الوقت الذي نحن مشغولون فيه بحكايا الوزير عن أغلفة كتب التاريخ وذكر حركة تمرد من عدمه ، وكيف سنسرد سيرة مبارك في كتبنا التي نطلق عليها جهلاً لفظة مناهج ، وأننا استطعنا بعد مجهود طويل وبعيد وجهد مكثف أن نختزل الكتاب المدرسي في صفحات قليلة وحذفنا الحشو والإطالة والاستطراد في الحكي والرغي ، هناك على الشاطئ الآخر يقف الصينيون يدشنون تعليما جديداً قائما على تربية الوجدان وتهذيب الخلق وتعزيز الإنسانية وتكريس مبادئها ونحن في غفلة من كل هذا وذاك كطبيعة فطرية لدى كل مسئول تعليمي بغير استثناء.

وما دام الوزير الذي طلته باتهام الخيانة لعقول أبنائنا من قبل ، ومرة أخرى نلته بسهم الغفلة عن مشروع فانتوم الياباني لتطوير التعليم ، فإنه هذه المرة لن يستطيع الفرار من المواجهة أو الاتهام بإفشال تعليم مصر التي لا تملك اليوم سوى عقول أبنائها وعزيمة رجالها فحسب لاسيما وأن تصريحات السيد الرئيس المشير عبد الفتاح السيسي الأخيرة تكشف عن حالة مصر الاقتصادية وأننا يجب أن نحافظ على كل جنيه لأننا نبني هذا الوطن .

لكن غفلة الوزارة ووزيرها الذي يطالبه جمع كبير وحشد متخصص بضرورة تقديم الاستقالة لأن الوطن اليوم ليس بحاجة إلى التجريب الظني أو التطوير البعيد ، جعلت القائمين المباشرين لتعليم أبنائنا يصرون على واجب الفصل والاشتراك القهري في مسابقات مديريات التربية والتعليم الشكلية عن طريق أبحاث يعدها الطلاب لا فكر فيها ولا لغة ، وغاب أمر التهذيب والتأهيل النفسي عن هؤلاء وبعد ذلك يشكون ليل نهار على أبواب مسجد السيدة زينب بأن هناك مشكلة تتعلق بالتسرب الدراسي للتلاميذ ، وأنهم يواجهون مأزقاً في تأخر تسليم الكتب المدرسية متناسين جميعا قضية الأمن النفسي والطمأنينة التي يجب أن يبعثوها في نفوس أولياء الأمور قبل أبنائهم .

ما هذا القلق وهذا الاضطراب الذي يشيعونه في نفوسنا ويعبثون بعقولنا حينما نكتشف حالات من الضرب صوب التلاميذ أو حالات تحرش ضد بناتنا وأولادنا أيضا ، هل فكر السيد الوزير أو مدير المدرسة المصرية المتهالكة والتي تسلك طريقها صوب الانقراض أن يقيما مسابقات حول الطالب النظيف ؟ والطالب ذي النشاط الزائد الذي بدأ في السكون والخمول إذعاناً لصرامة المدرسة الحجرية؟ وهل تقوم المدرسة طواعية بالكشف عن هواجس التلاميذ تجاه معلميهم ومدرائهم وفصولهم التي باتت تماثل خنادق الحرب العالمية الثانية ؟

وإذا كانت مصر العظيمة بحق في طريقها إلى إعادة التكوين والبناء واستعادة نهضتها التي كانت عليها ، فلابد أولا من كشف المثالب وتعرية حقيقة التعليم في مصر بغير مواربة أو تستر ، كما أننا اليوم لسنا في حاجة إلى تدليل المسئولين بعد ثورتين أطاحتا بنظامين عتيق ووليد ، والمصريون ليسوا بحاجة إلى التجريب واختبار القيادات الكبيرة والمتوسطة والصغيرة ، وعليه فالمحاسبة ضرورية ومنطقية لوطن يستفيق ولأمة كادت تعاني الضياع لولا رعاية الله لها .

أما الإنسانية والتهذيب وتربية والوجدان وتكريس ثقافات التنوع والاختلاف وتقبل الآخر ، وتدعيم مساحات الحرية في الرأي والفكر والنشاطات لدى أبنائنا فكل هذه أمور ليست قاصرة على الدول الإسكندافية أو تم إقصاونا عن تطبيقها بل نحن قادرون ، والشعب نفسه في ارتقاب لتغيير حقيقي يكشف عن معدن الوطن الأصيل ، والتعليم هو الأداة الحقيقية لهذا التغيير .

##

مقالات اخرى للكاتب

قَهْوَة بَلَدِي .. التَّعْلِيْمُ حِينَمَا يَبْكِي حَالَهُ !